النصر في غزة هزيمة للجميع

كل ما قيل عن فشل نتنياهو نبي اليهود الجديد انما هو دعوة لخراب أكبر وقتل أكثر.

طُويت صفحة غزة مع بدء عملية تبادل الأسرى بين طرفي الحرب. تلك جملة مسمومة وخبيثة يمكن أن تقفز من الصور. صور الأسيرات الإسرائيليات وصور الفلسطينيين المحررين والمستبعدين في الوقت نفسه عن فلسطين. كما لو أن ذلك الانجاز كان هو هدف عملية طوفان الأقصى بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية وفي المقابل سيعلق الطرف الإسرائيلي عمليات الإبادة التي مارسها في حق أهل غزة عبر أكثر من سنة وثلاثة أشهر على حبل المفاوضات التي أدت إلى إطلاق رعاياه المحتجزين في غزة من قبل حركة حماس. وبهذا يكون كل طرف قد حقق الهدف الذي أُضطر من أجله إلى الانجرار إلى الحرب، باعتبارها حلا. بهذه الطريقة تحل صور محل صور سبقتها ويذهب الجميع إلى النوم.

كل هذا هراء. تلك رائحة الطبخة قبل أن يحترق الطبيخ. إذا كانت عملية طوفان الأقصى فلسطينية خالصة من جهة التخطيط والتنفيذ والهدف فإن المسؤولين عنها في حركة حماس يجب أن يُحاكموا لأنهم ألقوا أهل غزة في نار حرب، أشعلوها ولم تكن لديهم فكرة عن إطفائها. أما إذا كانوا منفذين لمخطط إيراني، الهدف منه سرقة الوقت من أجل أن يستمر العمل في المفاعل النووي الإيراني وفي الوقت نفسه الضغط على إسرائيل من أجل القبول بإيران قوة عظمى في المنطقة فإن أي ذكر لهم على مستوى المستقبل السياسي الفلسطيني هو جريمة ينبغي أن يُعاقب عليها القانون. وفي الحالين فإن الطبخة احترقت حين لم تلجأ إسرائيل إلى فريق وسطاء وباشرت الحرث بنفسها.

لو لم يُجن جنون إسرائيل لكانت النتائج على الأرض مختلفة، ولكن أحدا ما قرر أن يدفع بإسرائيل إلى الجنون. كان نتنياهو في حاجة إلى أن يُجن الشعب الذي انتخبه لكي يترك انجازا للتاريخ يتجلى من خلال إبادة أكبر عدد من الفلسطينيين في حرب واحدة. هناك رأي مريب يقول إن هناك احتجاجات شعبية داخل إسرائيل تندد بسلوك نتنياهو من غير أن يكشف صاحب ذلك الرأي عن أن سبب تلك الاحتجاجات إنما يقع في المطالبة بعنف أكثر وقتل أكثر. ولو عدنا إلى تفاصيل عملية طوفان الأقصى سنرى أن جنون إسرائيل كان هدفا رئيسا لها. في دولة من نوع إسرائيل يمكن للحكومة أن تعترف بأخطائها على المستوى الأمني وتعوض ذلك عن طريق اجراءاتها العسكرية اللاحقة. ذلك ما فعله نتنياهو وأنا على يقين من حركة حماس كانت تعرف ما الذي ينتظر غزة وأهلها. 

لم تطو صفحة غزة ولن تنطوي هذه المرة. الأسوأ ينتظر أهل غزة. الدول التي ستساهم في إعادة اعمار جزء صغير مما هدمته الحرب لن تتكفل بشحن هواء غزة بمادة النسيان. ولن يكون في إمكان الانتصارات التي صارت أكثر من أن تُحصى وهي تتخذ اسماء مختلفة أن تُخفي السؤال الجوهري "لماذا حصل ما حصل؟" أما أن هناك سوء فهم يتعلق برغبة أهل غزة في الانتقام والثأر أملا في فك الحصار لقاتل المفروض عليهم أو أن هناك خطأ تاريخيا سمح لعدد قليل من البشر بأن يجروا مليوني بريء إلى المحرقة.

خرج المسلحون المقنعون من الإنفاق. رأى العالم صورهم وهم يلوحون ببنادقهم ويرسمون شارات النصر. لم ير أحد غزة. أما أهل غزة فقد ظهروا في صور توثق عودتهم إلى شمالها. تلك مشاهد قيامية تضج بالألم والعذاب. ما الذي سيجدونه هناك، في المكان الذي غادروه قبل أن يتحول إلى قبر جماعي لهم؟ لا اعتقد أن أحدا منهم يأمل في أن يعثر على بيته. ولكن فكرة العودة هي جزء من الشعور بأن الحرب انتهت. لم يبق شيء من غزة بعد أكثر من سنة وثلاثة أشهر من القصف المبرمج الذي كان نتنياهو يقيسه بالسنتمترات. كل ما قيل عن فشل نبي اليهود الجديد انما هو دعوة لخراب أكبر وقتل أكثر.

من المؤكد أن مواجهة الواقع بكل صوره المحبطة هو الخطوة الوحيدة التي يمكننا من خلالها أن نثبت أننا لا نزال نملك حدا أدنى من الإنسانية والعقل. وهو ما سيدفع العالم إلى احترامنا. أما إذا استمرت أناشيد النصر وقرع الطبول وتوزيع الأعلام في الطرقات فستكون حرب غزة هزيمة للجميع.