بعثان وزلزالان واحتلالان

عاش العراقيون والسوريون على وقع زلازل صغيرة وكبيرة متتالية، محت بعصفها تدريجيا كل أسباب العيش الكريم وجعلت من المواطنين سُكارى وما هم بسُكارى.

منذ الغزو الأميركي عام 2003 والعراق يعيش في حالة طوارئ بسبب الزلازل المستمرة التي تضربه بين حين وآخر. فبعد أن محت السياسة الأميركية الوشائج التي تشكل قاعدة للنسيج الاجتماعي سعيا وراء الانتهاء من العراق التاريخي وبناء عراق جديد قائم على الطوائف والأعراق انقلب كل شيء ولم يعد في الإمكان إعادة ما انقلب إلى وضعه الطبيعي. فالأرض صارت مائلة تحت أقدام العراقيين وهم في حالة انزلاق دائم. وإذا ما كانت المخدرات قد انتشرت برعاية إيرانية مباشرة فإن حالة الترنح المستمر لا تعود إلى المعالجة بالمخدرات الإيرانية، بل إلى شعور المواطن بأن الأرض صارت تدور به بسرعة يعجز معها عن التقاط صورة لعدوه الذي يملك موهبة غير طبيعية في التحول بين الشخصيات.

العراق بلد في حالة زلزال. ولكن ماذا عن سوريا التي ضربها زلزال ملحق بالزلزال الكبير الذي ضرب جارتها العدوة تركيا؟ أليست هي الأخرى دولة في حالة زلزال منذ عام 2011؟ عبر السنوات الماضية مُحيت في سوريا مدن وأحرقت دول عشرات المليارات من الدولارات من أجل إشعال حريق لن تنطفئ ناره إلا بعد أن تحرق آخر سوري. جذبت سوريا مثلما فعل العراق من قبلها مئات الشركات الأمنية التي تسترت خلف تسميات دينية ليمارس أفرادها القتل ولتهب الزلزال معنى واقعيا ولم يعد رحيل أو إسقاط حكومة هدفا في حد ذاته، بل صار استمرار وديمومة الخراب أو على الأقل الدوار الذي يعاني منه الشعب هو الهدف.

العراق وسوريا دولتان عربيتان رئيستان تكمل أحدهما الأخرى، جغرافيا وتاريخيا عاشتا زمنا طويلا من العداء المعلن الذي غُلف بالأسباب العقائدية الزائفة. حُرم شعباهما من أن يكون شعبا واحدا يتمتع بخيرات أرض معطاء، بل سخية في عطائها وبطريقة تفكير وحدوية كان في إمكانها أن تؤسس لوحدة عاطفية عربية. كانت الشعارات المرفوعة على الجانبين تنطق بالأحلام والتطلعات والأوهام والأفكار والتخيلات نفسها. غير أن قادة الحزب الوحدي في البلدين عملا على تدمير كل تلك الأحلام التي صارت أشبه بالكوابيس التي انتقل الشعب من خلالها من حالة الإنشداد القومي إلى حالة العمى العقائدي الذي أدى إلى قيام دولتين بوليسيتين بنظم قمعية مارست العنف في كل الاتجاهات مما أدى إلى تطبيعه.

وكان من الطبيعي أن تنتهي الدولتان إلى حالة من العزلة عن العالم جلبت معها الكثير من مصائب البؤس وكوارث التعاسة بالرغم من أن حقيقة الشعبين التاريخية تؤكد أنهما كانا منجما عظيما لروح الابتكار والخلق، علما وفكرا وأدبا وفنا ونزاهة وجمالا. لقد زلزل الحزبان حياتي الشعبين المنكوبين بهما من خلال مختلف الممارسات التي حرمت المواطن العادي من التفكير بحياته الشخصية بمعزل عن ضجيج الدعاية الحزبية التي جعلت البلدين العزيزين ينخرطان في نوبة تشنج هي عبارة عن مرثية طويلة لذات منكسرة ومهزومة ويائسة من إرادتها التي طُحنت في معارك لم تكن ضرورية وكان يمكن تفاديها بقليل من الحكمة والاعتدال.

عاش العراقيون والسوريون على وقع زلازل صغيرة وكبيرة متتالية، محت بعصفها تدريجيا كل أسباب العيش الكريم وجعلت من المواطنين سُكارى وما هم بسُكارى. ولم يكن الحزبيون في منجاة عن ذلك السُكر الجماعي. لقد سقط الالاف منهم ضحايا لثقة حمقاء وبلادة دفعت بهم إلى أن يكونوا طعاما لماكينة العنف التي تديرها الأجهزة الأمنية. كان الكابوس يتسع فيما تضيق نافذة الحلم ولم يكن هناك أمل إلا في انتظار وقوع الزلزال العظيم. ولكن إلى أين يذهب الخائفون والعالم لا يرى فيهم إلا أشباح لاجئين مزعجة؟       

لم يغادر البعث العراقي السلطة إلا بعد أن سلم البلاد بمَن عليها وبما فيها للاحتلالين الأميركي والإيراني. اما البعث السوري فلا يزال في السلطة بصفة فخرية فيما البلاد بمَن عليها وبما فيها صارت نهبا لاحتلالات روسية وأميركية وإيرانية وتركية. في الحالين فإن الزلزالين أخليا مكانهما لاحتلالات طويلة الأمد. اما حزبا البعث على الجانبين، فإن الأول انقطعت أخباره وصار الانتماء إليه جريمة نص عليها الدستور الذي فبركه الأميركان بعد أن فبركوا عراق الطوائف الذي سيذبح في كل مرة نفسه بنفسه أما الثاني فقد لاذ بصمته بعد عصر من التهريج والبلاغة الجوفاء ودروس المواعظ المبتذلة والمستخفة بالشعب.

وإذا كانت الأمور تُقاس بنتائجها فإن خراب بلدين تاريخيين وعامرين بثرواتهما وشعبين عزيزين وكريمين هو خلاصة تجربة بعثين اتخذا من الحكم مناسبة للاستبداد والقمع وممارسة العنف.