'تحول' تتبع الآثار الاجتماعية للحربين العالميتين على الغرب

رواية ستيفان زفايغ تشكل قراءة عميقة لانعكاسات الحرب العالمية الأولى والأحداث السياسية قبلها وبعدها على المجتمع الغربي عامة والنمساوي خاصة وأثرها على العلاقات الإجتماعية والعاطفية.

تشكل رواية ستيفان زفايغ "التحول" قراءة عميقة لانعكاسات الحرب العالمية الأولى والأحداث السياسية قبلها وبعدها على المجتمع الغربي عامة والنمساوي خاصة وأثرها على العلاقات الإجتماعية والعاطفية، بدأ في كتابتها لأول مرة عام 1931 لكنه توقف عن العمل عليها بسبب صعوبات في المحتوى، ثم عاد إليها خلال فترة وجوده في لندن بين عامي 1934 و1938؛ وأدخل إليها أجزاء نصية مختلفة ثم توقف مرة أخرى، ولم يعرف سبب عدم إكماله العمل على هذا النص/ الرواية، التي نُشرت عام 1982، تتكون من نصفين أول وثان كانا غير محررين عمليًا، حيث قام المحرر بتحريرهما عن طريق تكييف الأزمنة واختلافات الأسماء مع الجزء الأول وتصحيح الأخطاء المنطقية.

الرواية التي تبدو وكأنها كتبت في زماننا هذا، حيث الحروب والنزعات تقض مضاجع الإنسان وتلقى بكآبتها على واقعه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وعلاقاته الذاتية، ترجمها الشاعر التونسي أشرف القرقني وصدرت عن دار مسكيليانى للنشر تدور أحداثها انطلاقا من صيف 1926، حيث وجدت كريستين هوفلينر الشقراء البالغة من العمر 28 عاما، وظيفة متواضعة كمساعدة بريدية في مكتب بريد قرية كلاين رايفلينغ وهي قرية نمساوية مهملة تبعد عن فيينا ساعتين بالقطار.

لقد تم التغلب على هموم فترة ما بعد الحرب، ولكن ما زالت الحياة بائسة. تنقذها برقية بشكل غير متوقع من رتابة حياتها: تدعوها إحدى قريبات الأم لقضاء عطلة في منتجعها الفندقي بونرتيسينا. الدعوة لم تكن لكريستين وإن حملت اسمها، ولكن لأمها الأرملة العجوز السيدة هوفليهنر من قبل أختها التي قطعت رحلة حياة مضطرة وشاقة حتى تنتمي إلى عالم الأثرياء. الأم العجوز المريضة صلت كثيرا طلبا لأمر واحد أن تأتي شقيقتها هذه ـ كلارا ـ قبل وفاتها وتعتني بابنتها البائة كريستين، لذا ما أن قرأت الرسالة حتى شعرت بالسعادة وقررت أن ترسل ابنتها بدلا منها "حمدا للرب، لقد فازت بهذا بفضل القديسيين، إذ لم تنل من حياتها سوى الوظيفة والمسؤولية والكدح، بالإضافة إلى تكفلها برعاية امرأة مسنة بائسة مريضة عديمة الفائدة، من المفترض أن تكون قد ماتت ودفنت منذ فترة طويلة. ولو كانت تعي حقا لاستسلمت مرة واحدة وإلى الأبد. تكفلت الأم العجوز والحرب الملعونة بتدمير صبا كريستين تدميرا كاملا".

وصلت كريستين خائفة وخجولة إلى خالتها ـ كلارا ـ في المنتجع الفندقي الكبير والأنيق، تتظاهر بأنها ابنة أختها الغنية فان بولن. في البداية شعرت بالرهبة لكن سرعان ما انجرفت إلى عالم الترف والرفاهية، وقد أهلها جمالها وما تتمتع به من رقة وشغف للتمتع بالحياة لأن تنال إعجاب الجميع، الأمر الذي يوقعها في مصيدة مكائد المجتمع الفندقي بأثريائه المتأزمين أخلاقيا ونفسيا،وسرعان ما يكشف عن أصلهاالفقير وحياتها السابقة البائسة مع أمها المريضة. وفجأة يتلاشى ثمل التحول.

تعود كريستين إلى قريتها. لم تعد قادرة على التعامل مع الحياة في فيينا وتسقط في حالة اكتئاب، تنغمس على إثرها مرة أخرى في عالم فقرها الصغير وحياتها اليومية البائسة، والتي بالكاد تستطيع تحملها. هنا تلتقي بفرديناند، وهو رجل محمل بروح الثورة، خدع في شبابه بإمكانية العيشالعادل والآمن والمستقر لكنه لم يجد إلا الحرب والسجن. تشعر أنها مرتبطة به بشكل عفوي. في حالة اليأس، يفكر كلاهما في الانتحار معًا. ولكن بعد ذلك توصلا إلى خطة فوضوية تتمثل في سرقة مكتب البريد.

مقتطف من الرواية

كلّ شيء مختلف في هذا العالم الجديد، حتّى النّوم؛ إنّه أكثر قتامة وكثافة.. انعتاق كلّيّ. ما إن تستيقظ كريستين حتّى تستعيد حواسّها الغارقة تماما في أعماق نوم لم تعرف مثله أبدا، ببطء ومشقّة، خطوة فخطوة، كأنّها تجذبها من بئر سحيقة لا قرار لها. يكون انطباعها الأوّل إدراكا غائما للوقت، الذي يحاول تخمينه الجفنان المغمضان. لقد طلع النّهار. ولا شكّ أنّ هناك ضوءا في الغرفة. وبشكل مفاجئ تماما، يتشبّث الخوف بهذا الانطباع الأوّل الغامض. (إنّه يتسلّل عميقا في النّوم) : "إيّاك أن تنسي العمل! كلّ شيء مسموح لك إلاّ الوصول متأخّرة! وتندفع في لاوعيها آليّا سلسلة الأفكار التي تسجّلت فيه خلال السّنوات العشر الأخيرة. "سيرنّ المنبّه الآن.. الواجب، الواجب، الواجب.. انهضي حالا. ينطلق العمل على السّاعة الثّامنة، ولكن أشعلي الموقد قبل ذلك. وأعدّي القهوة. اذهبي لجلب الحليب والخبز.. ترتيب الغرفة.. تغيير ضمّادات أمّي.. التّفكير في الغذاء.. وماذا أيضًا؟ هناك شيء آخر عليَّ أن أفعله اليوم. نعم، عليَّ أن أسدّد ديون صاحبة المتجر. فقد ذكّرتني بذلك أمس.. لا، لا تعودي للنّوم ثانية. استيقظي. اقفزي من السّرير ما أن يرنّ المنبّه. ولكن ما المشكلة؟ ما الذي أخّره اليوم؟ هل تعطّل؟ هل نسيت رفع زرّه إلى الأعلى؟ لماذا لم ينطلق حتّى الآن؟ لقد غمر الضّوء الغرفة. يا إلهي! لقد نمت طويلا. والسّاعة الآن السّابعة أو الثّامنة، أو ربّما التّاسعة. لا شكّ أنّ النّاس يحتجّون الآن في مكتب البريد، مثلما فعلوا يوم أصابتني وعكة صحّيّة. لقد ذهبوا على الفور ليشتكوني عند الإدارة. إنّهم يرفتون الموظّفين بالجملة هذه الأيّام. أيّها السّيّد المسيح.. يا أمّنا مريم! لا يمكن أن أتأخّر. لا يمكن أن أستغرق في النّوم". يشبهُ هذا الخوف الدّفين من التّأخير خلدًا يشقّ نفقًا تحت سطح النّوم، ثمّ ينفذ عبر الطّبقة الرّقيقة الأخيرة. ويطلّ برأسه.

"أين أنا؟". جالت عيناها في الغرفة. "ما الذي حدث لي؟". يمتدّ فوقها سقفٌ أزرق وأبيض، نظيفٌ مستقيمُ الخطوط مذهَّب، بدلًا من سقف العلّيّة ذي الألواح الخشبيّة البنّيّة، الملطّخ بدخان السّجائر، والذي تعشّش فيه خيوط العنكبوت. "من أين يأتي كلّ هذا الضّوء؟ لا بدّ أنّ نافذةً جديدة قد برزت أثناء اللّيل. أين أنا؟"، تنظر إلى يديها السّاكنتين. فلا ترى تحتهما الملاءة البنّيّة القديمة المبقّعة المصنوعة من وبر الجمل، بل ملاءة أخرى ناعمة رقيقة زرقاء مزخرفة بزهور حمراء.. قفزة أولى، "هذا ليس فراشي". قفزة ثانية، "هذه ليست غرفتي". أما الثّالثة والأعلى، فقد تلتها نظرة صافية من حولها، قبل أن تتذكّر كلّ شيء: الإجازة، العطلة، الحرّيّة، سويسرا، خالتها، زوج خالتها وهذا النّزل العجيب! لا خوف الآن ولا عمل ولا مسؤوليّات ولا منبّه. ما من موقد. لا أحد ينتظرها. وقد انتهى خوفها من ضغط الآخرين ومطالبهم؛ توقّفت للمرّة الأولى طاحونة المشقّات المريعة التي تسحق حياتها منذ عشر سنوات. بإمكانها أن تستلقي على فراشها النّاعم الدّافئ، وأن تشعر بالدّم يتدفّق في عروقها. وتُسلم نفسها للضّوء قادما من خلف السّتائر المسدلة برقّة، وتتذوّق الحرارة اللّطيفة وهي تتخلّل مسامّها. لا حاجة إلى القلق من العودة إلى النّوم. فهي تستحقّ أن تنعم بالكسل. تستطيع أن تحلم وتتمطّى على فراشها. حياتها لها، وقد صارت تنتمي إلى ذاتها. يمكنها أيضًا –تتذكّر الآن ما قالته لها خالتها– أن تضغط على هذا الزّرّ فوق الفراش. حيث ترتسم صورة نادل تشبه طابعًا بريديًّا. كلّ ما عليها أن تفعله هو أن تبسط يدها فقط. فيقع السّحر مباشرة. يُطرق الباب في غضون دقيقتين. تفتحه. فتجد عامل النّزل عند الباب. يدخل الغرفة بأدب، وهو يدفع عربة صغيرة ذات عجلات مطّاطيّة. (كانت قد اندهشت لمرأى هذه العربة في غرفة خالتها). عليها توضع القهوة أو الشّاي أو الشّوكولا، وفق ما تريده هي، على أطباق جميلة ومناشف دمشقيّة بيضاء. ها هو فطور الصّباح يتجلّى من تلقاء نفسه. ليست مضطرّة إلى طحن القهوة وإشعال الموقد، والوقوف عنده بقدمين شبه حافيتين في ذروة البرد. لا، كلّ شيء يأتيك بمفرده هنا؛ خبز أبيض وعسل ذهبيّ وأطعمة أخرى كثيرة ولذيذة مثلما حدث أمس. تأتي بها عربة سحريّة متحرّكة حتّى طرف سريرك، ساخنةً طازجة، دون أن تكلّف نفسك شيئا أو ترفع إصبعًا واحدة حتّى. ويمكن لكريستين أيضا أن تضغط على الزّر الآخر الذي تغلّفه صورة فتاة ترتدي سترة بيضاء. وحينها ستسرع إليها الفتاة. فتدخل غرفتها بأدب بعد أن تدقّ على الباب، مرتدية مئزرًا لامعًا وفستانًا أسود. تسأل عمّا إذا كانت السّيّدة تريدها أن تفتح مصراعي النّافذة أو تسحب السّتائر أو تجهّز لها الحمّام. يستطيع المرء في هذا العالم العجيب أن يصوغ ما شاء من الأمنيات. وستتحقّق كلّها في طرفة عين. لكن عليها أن تقرّر في النّهاية. هل تضغط على الزّر أم لا؟ تنهض من سريرها أم تمكث فيه؟ هل تبقى في الفراش أم تستسلم للنّوم ثانية؟ وعلى كلّ، سواء أفتحت عينيها أم تركتهما مغمضتين فإنّ بإمكانها أن تنعم الآن في كسل وهدوء بهذه الأفكار الرّائعة، أو ألاّ تفكّر في شيء مطلقا وتكتفي بالتّلذّذ بسعادتها. فالزّمن هنا خاضع لإرادتها بعد أن كان من قبل سيّدها. لم تعد رحاه القاسية تطحنها بين السّاعات والثّواني. بل صارت تنزلق فوقه بعينين مغمضتين، كأنّها في مركب بمجدافين ثابتين. تستلقي مستمتعةً بهذا الإحساس الجديد، والدّماءُ تنبض برقّة في أذنيها مثل أجراس كنيسة تدقّ في الأفق يومَ الأحد.

"لا"، صرخت كريستين، وقد انتزعت نفسها بحركة نشيطة من تحت الأغطية. ليس عليها أن تسرف في الحلم. ولا يجدر بها أن تضيّع هذا الوقت الذي يهبها في كلّ ثانية مفاجأة أعظم من سابقتها. يمكنها أن تستغرق في الأحلام ما شاءت لأشهر وسنوات عندما تعود إلى المنزل، مستلقية على ذلك الفراش الخشبيّ البنّيّ المكسور الذي يئنّ ليلًا، بحشيّتة المتحجّرة، أو عند المكتب الملطّخ بالحبر، بينما يعمل الفلاّحون في حقولهم، وتتكّ السّاعة المعلّقة على الحائط بلا رحمة، إلى ما لا نهاية له، كأنّها حارس متحذلق. هناك يكون الحلم أجمل من اليقظة؛ أمّا هنا في هذا العالم السّماوي، فالنّوم مضيعة للوقت. غادرت الفراش بحركة حاسمة. شيء من الماء البارد على وجهها وعنقها، وها هي في أوج نشاطها. ارتدت ثيابها الجديدة مستمتعة بملمسها النّاعم. كاد جسدها أن ينسى هذا الإحساس الجديد. "ولكن، لا تهدري وقتك مع هذه المتع الصّغيرة. يجب أن تغادري غرفتك وتذهبي لزيارة مكان ما -أيّ مكان تشائين- وهناك ستنعمين بالسّعادة والحرّيّة. أطلقي ذراعيك. واملئي عينيك. تيقّظي قدر إمكانك. واتركي حواسّك كلّها تتشرّب هذا العالم". لبست سترتها بسرعة. وضعت قبّعتها على رأسها. وهرعت نازلة الدّرج.