تشكلات المكان بين الحميميّة والعدائيّة في 'قبلة على الخد... وأخرى على الجبين'

الفضاء السردي في مجموعة محمود بلعيد يتحول إلى عنصر دلالي وجمالي يعكس علاقة الشخصيات بالمكان، سواء من خلال الألفة والحنين أو العداء والاغتراب.

يعتبر المكان أحد المحاور الأساسية في نظرية الأدب والسرديات وعنصراً جمالياً ودلالياً يضفي على السرد - قصة أو رواية - أبعاداً متعددة. وقد ارتبطت دراسة المكان - والفضاء على وجه أعمّ - بالنص الروائي، وحظيت باهتمام أقل مع القصة. ولعل الانتباه إلى قيمة المكان في السرديات يعود إلى أنه لا يمثل عنصراً جمالياً فقط، بل يشف عن أبعاد اجتماعية ونفسية تضيء أعماق الشخصيات وتكشف رؤية الراوي في علاقته بالمكان. فالمكان في القصة هو الذي "يقتضي وجود الشخصيات والأحداث"، وتتحدد فيه شبكة العلاقات ووجهات النظر. غير أن المكان قد يكون قادحاً للذاكرة، فينهض الفعل الاسترجاعي باستدعاء ذكريات المكان وإعادة بنائها وترتيبها... ولعل قراءة قصص محمود بلعيد في مجموعته "قبلة على الخد وأخرى على الجبين" (1) تكون مجالاً لاختبار هذه التصورات للمكان في السرد القصصي وتبين بعض ملامح تشكلها ودلالاتها.

ويمكن استجلاء علاقة الإنسان بالمكان في القصة أو الرواية عبر محاور ثلاثة تمثل أهم سماته، هي العداء والألفة والحياد. تتجسد الأماكن الأليفة حسب باشلار في البيوت والمقاهي والطبيعة ودور العبادة، في حين تتسم السجون والمدن الغريبة والمنافي بالعدائية. أما الأماكن المحايدة فهي تخضع عموماً لنفسية الشخصية ولطبيعة علاقتها بالمكان. (2)

المكان الأليف / استعادة الدفء والحميمية:
يبدو "البيت" في عدد هام من قصص محمود بلعيد رمزاً للمكان "الأليف". فبيت الطفولة عادة هو مكان الألفة، يقترن به الإحساس بالحماية والأمن. هذا المعنى يتجسد في قصة "كلارا" حيث يتشكل البيت في صور مختلفة. هو أولاً بيت الأصدقاء حيث كانت كلارا في ضيافة زوجة الراوي تحدثها عن حياتها وذكرياتها بصراحة وتروي لها مشاريعها. وهو بيت كلارا في تونس وبيت أجدادها في فرنسا. في بيت الأصدقاء يتسنى للشخصية البوح بمشاعرها وأحلامها، ذلك أن هذا البيت يمثل مكاناً حميمياً تلتقي فيه بصديقتها، تسرد ماضيها وتتأمل حاضرها وتصوّرها للمستقبل. تصف تلك اللقاءات العائلية والطقوس الاجتماعية في مواسم الأعراس والأفراح... يغدو المكان حالة نفسية رديفة للأمن والدفء والحماية، بل هو القوقعة التي يختفي فيها الإنسان احتماءً من شرور العالم.

وفي قصة "كفتاجي بالنازلي" يتحوّل البيت إلى فضاء لأحلام اليقظة إضافة إلى الإيحاء بأجواء المحبة والألفة. ذلك أن البيت الذي نولد فيه حسب باشلار "هو أكثر من تجسيد للمأوى، هو تجسيد للأحلام كذلك. وكل ركن وزاوية فيه كان مستقراً لأحلام اليقظة" (3). يسرد الراوي قصة الحاج علي وهو يتحرك في بيته ويحادث قطته الأليفة وزوجته الغائبة. في البيت تتواصل حياة الحاج علي - بعد موت زوجته - بكل عاداتها وطقوسها، ينقلها لنا الراوي عبر مونولوج الشخصية الممتدّ طيلة القصة... فالمكان كما يذهب إلى ذلك حسين بحراوي "شبكة من العلاقات والرؤيات ووجهات النظر" (4)، لذلك تتعدد صور المكان الأليف في مجموعة محمود بلعيد. فهو بيت الأجداد، بيت الطفولة، بيت الزوجية، بيت الحبيبة...

ويتسع في المجموعة مفهوم الألفة في المكان وما يوحي به من الحميمية والدفء إلى مكان أوسع هو المدينة. وهو فضاء لا يكتسب صفة الألفة من مكوناته المادية، بل يستمدها من العلاقات التي تنشأ فيه ومن الإنسان الذي يشغله والأحداث التي تقع فيه. ورغم أن المدينة في عدد هام من الروايات العربية والعالمية "تعكس إحساساً فاجعاً بعدوانية هذا المعمار القاهر مادياً ورمزياً" إلى حدّ أن اعتبرت الرواية "فنّاً مدينيّاً"، فإن صورة المدينة في قصص محمود بلعيد لا تشفّ عن عدوانية هذا الحيّز المكاني والجغرافي بل سنراها كاشفة عن أبعاد اجتماعية ونفسية وإنسانية مغايرة تجسّدها علاقات الشخصيات مع المكان.

تقترن صورة المدينة في مجموعة "قبلة على الخد وأخرى على الجبين" بمشاعر الحب والحنين والألفة تعيشها الشخصية بعد غربتها خارج الوطن، لتكون المدينة جزءاً من ذاته وذاكرته. هي المدينة العتيقة يتجوّل فيها الراوي/الشخصية، يتملّى شوارعها وأزقتها، يتشمّم روائح أطعمتها وأطايبها، يستنشق عبير ماضيها بكل حواسّه، فإذا الإنسان والمدينة كائن واحد "فالعيد عيده، والمدينة مدينته، والأحياء أحياؤه...، بدكاكين التجارة والعربات، بالباعة المتجولين والمنتصبين أمام صناديقهم الصغيرة، بالمارة العابرين، بكل من هبّ ودبّ في حيّه والأحياء المجاورة...".

تغمر مشاعر الحب والحنين كل مكوّنات المدينة ويتجسد الشعور بالانتماء إليها قوياً لدى الشخصية، فتتداخل صورتها مع صورة البيت لتكون امتداداً له. ذلك أن "كل الأمكنة المأهولة حقاً تحمل جوهر فكرة البيت" حسب باشلار. المدينة/البيت هي تلك التي تفتح لك ذراعيها (أنهجها وأزقتها) فتطلب قبلة تزيل برود الشوارع وجمودها، بعفوية وبراءة تلك الطفلة ذات السنوات الأربع التي التقاها فؤاد في أنهج المدينة العتيقة "رفعت رأسها إليه عندما صار قبالتها وفتحت ذراعيها وقالت له بصوت عذب رقيق: قبّلني..." فكانت القبلة على خد الطفلة والأخرى على جبينها قادرتين على إزاحة ثلوج المهجر في صدر الشخصية دفعة واحدة. (قصة "قبلة على الخد... وأخرى على الجبين")

ولا يقترن مفهوم الألفة بالمدينة الأم/الموطن فقط، بل قد يقترن أيضاً بالمدن الغربية، أو مدينة المهجر حيث تنتقل الشخصية لطلب العلم أو للعمل. ورغم أن المدن "الغريبة" تعتبر عموماً من الأماكن المعادية، فإن المدينة (باريس) في قصص محمود بلعيد سيكون لها وجه مغاير. وبما أن المكان لا يغدو أليفاً إلا عبر العلاقات التي تنشأ فيه بين الشخوص وعبر الرؤيات، فإن باريس/المدينة ستكتسب بعض سمات الشخصيات التي تؤثثها والعلاقات التي تبنى فيها.

تحضر مدينة باريس في قصتين هما "إقامة مونسيني" و"أيام لا تنسى". في الأولى ترتسم ملامح المدينة من خلال وجهة نظر طالب تونسي يسافر إلى باريس للدراسة، في حين ترتسم ملامح المدينة في القصة الثانية عبر رؤية شاب باحث عن العمل فيها. المدينة في القصة الثانية ورغم صعوبات العمل فيها ومشاقه وعوائقه هي "مدينة صعبة، عظيمة، يقظة بالمرصاد لكل التحركات والهفوات..." لكنها، وهذا الأهم في نظر الشخصية، "تعطي لكل ذي حق حقه ولكل عمل جزاء ومكافأة". ورغم المواقف العنصرية لدى بعض سكان باريس (رئيس المركز، صاحب المقهى)، فإن الحياة فيها في نظر الشخصية تبقى جميلة والأيام ممتعة لأن هناك دائماً من يعتذر لك في حالة الخطأ وينزعج ويتأثر لهذا الظلم (ص75). فيها تخفّ قسوة الخيبة وكأنها تتعاطف مع الإنسان وتبعث فيه الدفء: "أنهجها الخلفية موحشة كأنها حزينة لحزنك". وهو دفء لا يتصل بالبعد المادي للمدينة بل بحيّزها الإنساني، إذ يمكن أن ينبعث من صوت سيدة في النزل تستقبل الطالب الغريب بهدوء "وبصوت دافئ" فتنجلي بصوتها هموم الغربة (ص43).

المكان المعادي / الانفجار القادم:
غير أن المكان يمكن أن يتسم أيضاً بالعداء. ويعرف المكان المعادي بأنه "المكان الذي تشعر فيه الشخصية بالاضطهاد والعدائية وعادة ما تتجسّد الأماكن العدائية في السجون والمدن الغريبة والمنافي والأقبية". وتتجلى ملامح هذه العدائية في قصتين في مجموعة محمود بلعيد هما "المصعد" و"صاحبي بين بائع الخضر وبائع الفواكه". المكان المعادي في القصتين هو الإدارة سواء في داخلها، في مصعدها أو أمام بابها... والمصعد بحكم انغلاقه وضيقه وخفوت ضوئه يلتقي باستعارة القوقعة عند باشلار ويستعير منها رمزيتها. ذلك أن "الكائن الذي يختبئ وينسحب إلى داخل قوقعته إنما يعدّ نفسه للخروج. إن هذا يصدق على مجموعة الاستعارات ابتداء من بعث الإنسان من قبره، إلى الانفجار المفاجئ لشخص صمت فترة طويلة... إن الكائن الذي يظل ساكناً في قوقعته يتأهب لانفجار إن لم نقل لعاصفة..." (5).

يوفر المصعد (القوقعة) بانغلاقة وضيقه وخاصة ببعده عن الرقابة والأعين، وعزلته الوقتية عن الأرض، إمكانية التنفيس عن مشاعر الاضطهاد والظلم التي يعيشها الموظف في الإدارة في مواجهة مديره. في قصة "المصعد" يوقف الموظف حركة مصعد الإدارة في وسط الطوابق ليصعّد فيه أوجاع الشعور بالعداء والظلم مخاطباً المدير "حضرتك تشنّ علينا الحروب بلا هوادة، الواحدة بعد الأخرى، فكأننا أعداؤك الألداء" ص98.

لذلك يمكن أن نعتبر المصعد قوقعة يحتمي بها الموظف ويختبئ فيها متأهباً لانفجار قادم. وهو مكان يحيل برمزية سماته وموقعه وحركته إلى فضاءات الحرية المحدودة والقاتمة، تلك التي قد توفر فرصة وحيدة لحرية الكلمة والتنفيس عن المكبوت من المشاعر بتصعيدها.

على أن جغرافية المكان العدائي في قصص محمود بلعيد قد تتوسع لتضم أفضية أخرى مفتوحة هي الريف والقرية. وهي وإن كانت مفتوحة جغرافياً فإنها مغلقة بتقاليدها وعاداتها. نقرأ هذا الانغلاق والعداء في رفض العائلة الريفية (أسرة من الأعيان) الاعتراف بعلاقة الحب بين ابنتها والشاب المغني الذي رأته في حفل العرس...

وقد تتحوّل المدرسة إلى مكان معادٍ شبيه بالسجن ويغدو المعلم نموذج السجان حين يتعامل مع التلاميذ بعجرفة وقسوة واحتقار واستعلاء فقط لأنهم من أبناء عائلات فقيرة: "تلك المدرسة التي كانت بمثابة سجن يفتح أبوابه صباحاً لتقبل الأطفال الصغار حيث يبقون طوال اليوم مسجونين معذبين. ثم يلفظهم في آخر العشية إلى الشارع فينطلق الصغار في حرية واندفاع وفرح لا يوصف بعد خروجهم من الأقسام وهم يتدافعون منطلقين في الأنهج والشوارع." (قصة ذلك الرجل بعينه).

لقد كان المكان في مجموعة "قبلة على الخد... وأخرى على الجبين" عنصراً متحكماً في مسار التخييل السردي، مولداً بتنوعاته مشاعر الشخصيات وعلاقاتها العدائية أو الأليفة. كما كانت الشخصيات في هذه القصص غير قادرة على الانفصال عن ذاكرتها المكانية مما جعلها في حالة تجاذب بين ماضيها وحاضرها. فالذاكرة المكانية هي المعين الذي تستمد منه الأحداث والمشاهد وتكتسب الذكرى بذلك دلالات ثرية. لقد كان المكان في قصص محمود بلعيد فضاء رحباً لنسج عوالم التخييل إذ تنقلت الشخصيات عبر الأمكنة إلى أزمنة بعيدة توقاً إلى استعادة فردوس مفقود، أو تطهراً من أوجاع الحاضر والصدمات والذكريات المؤلمة... والتقت عموماً في رسم رحلة الإنسان في عوالم المكان والذاكرة احتماءً من شرور العالم.


الهوامش والإحالات:
1- محمود بلعيد: قبلة على الخد وأخرى على الجبين، الشركة التونسية للنشر، ط1، 2019.
2- غاستون باشلار: جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط2، 1984، ص 42.
3- باشلار: م. ن. ص 35.
4- حسين بحراوي: بنية الشكل الروائي: الفضاء – الزمن – الشخصية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص32.
5- باشلار: م.ن. ص114.