حين يصبح التهريج بديلا للتحليل السياسي
في نقاش حول طوفان الأقصى، رفع أحد الحضور صوته بثقة قائلا "كلها مسرحية، تم الاتفاق على تفاصيلها مسبقا." توالت الضحكات ونظرات الرضا، حتى قال العامل الذي قدم لنا الشاي بصوت خافت "ابني استشهد هناك".
ساد صمت مفاجئ، كشف هشاشة ذلك "التحليل" الذي كان يُقدم على أنه وعي نادر، بينما كان المحللون يتبادلون نظرات الرضا كأنهم كشفوا سرا، فذكرهم صمت العامل بأن الدماء ليست حبرا يُمسح من على الورق.
في هذا الزمن الذي تتشابك فيه الجغرافيا بالتحالفات والمصالح، يبرز نمط تحليلي يختزل التعقيد بقصص مغلقة، تستبدل الفهم بالتهريج، وأشهرها "كل الحروب مسرحيات". هذا الموقف، الذي يبدو اكتشافا علميا، هو هروب من مسؤولية الفهم وتفريغ السياسة من مادتها العلمية.
التحليل المؤامراتي لا يفسر الواقع بل يعيد إنتاجه كسلطة رمزية بديلة، حيث تتحول الريبة إلى تمايز والمعرفة إلى إنكار، فيصبح المحلل شاهدا على "مسرحية كونية"، يمارس التفوق الزائف على من يصدّق أن الصراع حقيقي وربما يسخر منه.
ثمّة ما هو أخطر من هذا التفسير الكسول، وهو أن كثيرا منه لا يُبنى على قراءة واقعية، بل على انفعالات مذهبية أو انتماءات عاطفية، وبعضه يصدر عن إحباط سياسي. مثل من يُصرّ على أن مجزرة في مدرسة هي "مسرحية" لأن الغريزة الطائفية تمنعه من إدانة أحد أطراف الصراع.
وفي ظل ذلك، يتكاثر على الشاشات ما يمكن وصفه بـ"المحللين تحت الطلب" الذين يقدمون للجمهور تحليلات أقرب إلى الترفيه منها إلى الاستقصاء ويخوضون في الجغرافيا السياسية كما لو كانوا يتحدثون عن نتائج مباريات محلية، بلا أدوات، ولا مصادر، ولا حتى فهم لمعاني الكلمات التي ينطقونها.
وأسوأ ما يصنعه هذا النمط من التحليل أنه يُفرغ الكارثة من مضمونها الإنساني. فمليون قتيل في الحرب العراقية – الإيرانية، وقتلى مجازر الغوطة، وضحايا اجتياح بيروت، تتحول إلى مشاهد استعراضية في ذهن "المحلل الخارق" الذي لا يعترف بالألم ما لم تُجيزه عدسته السياسية.
هذا النمط من التهريج لا يُفكك الواقع بل يُعيد إنتاجه كصورة زائفة، ولفهم خطورته، نوجز المداخل التالية:
أولا: الزعم بأن الحروب مفبركة يتجاهل تحوّل الدولة الحديثة إلى فاعل ضمن نظام دولي غير متوازن، وأن الحرب تنجم عن فشل الردع أو تفكك داخلي، لا عن مسرحية متفق عليها سلفا. تجاهل هذه المعطيات يُغذّي التضليل لا التفسير.
ثانيا: التهكم السياسي يعيد إنتاج الخضوع، فاستبدال الفهم بالمؤامرة يعطل العقل النقدي ويحول النقاش إلى دائرة مغلقة من السخرية بلا مساءلة.
ثالثا: هذا التهريج يقصي العامة ويعيد السياسة إلى نخبة تتداول “أسرارا خاصة”، فيتحول التحليل إلى ذوق خاص مغلف بالشك والريبة بدل الفحص الموضوعي.
رابعا: لا أحد ينكر التعقيد العالمي، لكن مواجهته تتطلّب شجاعة التحليل لا راحة التبسيط. ليست كل الحروب عادلة، لكن أيضا ليست كلها زائفة. معيارنا يجب أن يكون الإنصاف المستند إلى الأدلة لا الانتماء أو المزاج.
ويبقى التحدي الحقيقي هو التمييز بين التحليل والتهريج، لا بالنوايا بل بالأدوات، بين من يسعى إلى الحقائق لإنقاذ الأرواح، ومن يوظف جثث الضحايا لإثبات نظريته الساذجة.
وبدلا من الانجرار خلف صيحات الإعلام والضجيج، يجب أن نعتمد على التحقيقات المستقلة وتقارير الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية، ونبحث عن "كيف حدث؟" لا "من يقف وراءه؟"، فالفرق بين المحلل والمهرج واضح: الأول يفتش عن الحقيقة، والثاني يبحث عن إعجاب الجمهور على منصات التواصل والميديا.
وأخيرا فإن السؤال الأهم ليس هل هذه الحرب مسرحية؟ بل هل نملك الشجاعة لنكون أوفياء للحقيقة، حتى لو كانت عكس ما نحب؟