حين يكون الوجع قادحا لبناء الإنسان في 'علّها تتبسّم الحياة'

مجموعة دنيا الحبيب القصصية تستكشف جدلية الألم والأمل من خلال شخصيات نسائية تواجه واقعًا قاسيًا بشجاعة وسخرية، وتحوّل الوجع إلى قوة داخلية للفعل والتغيير.

تنفتح عتبات المجموعة القصصية "علّها تتبسم الحياة" (1) للكاتبة دنيا الحبيب على معاني الفرح والأمل، عنوانًا وإهداءً.. فإضافة إلى فرح ممكن يوحي به العنوان، تعلن الكاتبة في إهداء جميل لافت للكتاب: "إلى ذلك الوجع الذي صنعني".. حيث يغدو الوجع قادحًا لبناء الذات و"صناعة" الإنسان. جدلية الألم والأمل تجلوها جلّ أقاصيص المجموعة، بل تمثل الخيط الناظم والفكرة المحورية فيها. تتضمن المجموعة 18 قصة، تنفتح أولاها على عالم السجن، وتنغلق آخرها به. وبين حصار السجنين، ترسم بقية القصص عوالم أخرى أو سجونًا مختلفة تسيّجها أوجاع الإنسان، عذابات المرأة والشباب، يضمها فضاء المدينة والوطن.

كيف كان الوجع محرّكًا للفعل السردي وللشخصيات القصصية؟ هل سيستعيد السرد قدرة الإنسان على تغيير رؤيته للعالم، فاتحًا أبواب الأمل؟

أوجاع تنحت الأمل :

تعتبر القصة لدى البعض "فن الشخصية"، وهو ما يتأكد مع قصص دنيا الحبيب، رغم اقتصاد واضح في وصف ملامح الشخصيات الخارجية. غير أن الحوار بأنواعه، والسرد بتنوع صيغه، سيتكفلان عمومًا برسم ملامح الشخصيات النفسية ورؤاها للعالم. إن المهم حسب باختين ليس "ما تمثله الشخصية في العالم، ولكن ما يمثله العالم بالنسبة للشخصية، وما تمثله الشخصية بالنسبة لنفسها" (2).

تتميز جلّ الشخصيات القصصية في مجموعة دنيا الحبيب "علّها تتبسم الحياة" بسمات التحدّي والتمرّد والمقاومة، رغم أنها تواجه واقعها القاسي غالبًا وحيدة دون سند. جلّ الشخصيات ترفض الاستسلام للحزن والألم، رغم كونها تعيش وضعيات تكاد تنسدّ فيها آفاق الحلم. هي المرأة تقع ضحية تحيّل من أقرب الناس إليها، شريكها في الحياة والعمل، لتنتهي بسببه إلى سجنها عشر سنوات (حرف من ألم وحرف من أمل). وهي الزوجة تتعرض للخيانة الزوجية، فتعاني آلام الوحدة والهواجس والفراغ (حدّث الياسمين قال). وهي الأم تعيش الفقد والفجيعة بعد موت ولدها الشاب (لكنه لا يأتي)، أو الفتاة ذات الشهادات العلمية العالية، تواجه وحدها البطالة وصعوبة تدبر الحياة ماديًا (حب الملوك).

تبدو المرأة شخصية محورية في المجموعة، لكن جلّ القصص تضفي عليها سمات التحدي والعزم على تجاوز المأساة، وتحويل الوجع محفزًا على الانتصار.. من ذلك قصة "حدّث الياسمين"، حيث تبوح الشخصية (طبيبة الأطفال) بأوجاعها إلى طبيبة نفسية في شبه مونولوج مطوّل، بعد أن غدت "امرأة متشظيّة إلى ألف قطعة". لقد حرمت نعمة الأطفال وخانها الزوج، فغدت فريسة للوحدة والهواجس رغم حياة الرخاء المادي. غير أنها في النهاية لا تبحث إلا عما "يجعل الياسمين يزهر في قلبها من جديد"، عن أمل جديد لمواصلة الحياة.. هي أيضًا المرأة في السجن، تسترد حريتها المفقودة عبر عالم الكتب، قراءة ثم كتابة، لتنسج من ألمها حروفًا وقصصًا تخترق بها الأسوار العالية والقضبان الصدئة (قصة حرف من ألم وحرف من أمل).

المرأة هي الأم، تنجح في التعايش مع الفقد ولو بابتداع الوهم، بالحفاظ على طقوس الحياة كما عاشتها مع ابنها الميت (لكنه لا يأتي). المرأة هي التي تتعهد علاقة الحب القوية مع زوجها، رغم مرّ السنوات وقسوة الحياة، ورغم أخطاء الزوج، ولو تلبّست صورتها بصورة المرأة الطيّعة، "فقد كان يحبها في صمت، وكانت تعشقه دون ثرثرة" ص59. جلّ الشخصيات في المجموعة تبدو قادرة على "رتق الجراح وخياطة الندوب"، وتحويل تجربة الألم إلى رحلة تحدٍّ ومواجهة، وجعل الوجع قادحًا للفعل، مثل علياء الخيّاطة، فهي "مثل المصوّر الفوتوغرافي، كلاهما يبحث عن مواطن الجمال لتوثيقها". وقد كانت "ماهرة في رتق الثقب. فكم من كلمة طيبة خاطت بها جرحًا ظنت صاحبته أنه لن يلتئم".

ولعل ما يقوّي هذه الرؤية الإيجابية للعالم أسلوب السخرية والهزل، الذي أضفى على عدد من القصص جوًّا من المرح، ولو بتحويل المأساة إلى ملهاة.. تعبث الكاتبة دنيا الحبيب بهموم الشخصية، وتعمد إلى استعمال مراوغ للغة وخلق مفارقات تغدو معها السخرية "آلية دفاعية ضد القهر مهما كان مصدره"، أو "محاولة لحفظ التوازن.. والدفاع عن النفس في مجتمع مقلوب" (3). من وجوه السخرية والهزل ما جاء في نهايتي قصة "في بيتنا كورونا"، وقصة "برّد يا العطشان"، من تقابل بين الحدث ونتيجته الهازئة، والقائمة على التقابل.. أما قصة "حين يخون الياسمين"، فقد جلت مفارقة ساخرة بين رؤيتين للواقع العربي، رؤية الأب المؤمن بقيم العروبة والأمة وتمجيد الساسة الذين يروجون لها، حتى أنه سمّى ابنته "عروبة"، محاولًا تمرير قناعاته إليها، ورؤية الطفلة (الجيل الجديد)، يسعى الأب إلى إقناعها بهذه القيم، في حين لا ترى في الواقع سوى التشتت والضعف والهوان.. تقول الساردة (الطفلة): "كنت أثأر لنفسي من استبداد أبي، أسمّي صدّام حسين بصدّام الحزين، فيعاقبني أبي.. إلا أن كلمتين كانتا خفيفتين على اللسان، ثقيلتين على الضمير، ظللت أرددهما آنذاك وأنا أقفز وأضحك.. وهما كلمتا النكبة والنكسة، أو "المكنسة والكنَبة" كما أنطقهما آنذاك. فيغضب أبي، ويهتز شاربه الأسود الذي أطلقه أسوة بصدام، ويشبعني سبًّا وشتما، وكأني أنا التي تسببت فيهما" ص85.

ويسهم تضمين الأغاني بلهجتها الأصلية في تخفيف أوجاع الواقع وتضميد الجراح لدى الشخصيات، حين تغدو أداة للتواصل بين الزوج وزوجته (بهية ومنصور). إذ يقوم الحوار بينهما على تضمين لأغانٍ عشقاها لأم كلثوم وعبد الحليم، وكأن الغناء هو الترياق ضد انكسارات الزمن، والدواء لهشاشة الإنسان أو لتعثر التواصل.

وقد تتكفل الخاتمة في القصة أو "لحظة الذروة" بتأكيد الفكرة المحورية والخيط الناظم للمجموعة، إمكانية تجاوز الوجع، حين تعمد الكاتبة إلى ترميم تصدّعات الشخصية، فيكتشف القارئ الجانب المضيء في الإنسان وفي العالم، بعد خوف وشك في نواياه الإجرامية (برّد يا العطشان). أو حين تنتفض الشخصية من الوجع "كطائر الفينيق" بجناحيه الجريحين، وتحلق من جديد، ولو عبر الحلم والخيال، لتثبت قدرة الإنسان على التحدي. ترسم الكاتبة أوجاع الإنسان النفسية والمادية لا لتحليل أسباب شقائه أو لتبرير ضعفه، بل لتؤكد في نهايات الأقاصيص خاصة، إمكانية التجاوز، باحثة في كل مرة عن الوجه المشرق للغد..

لئن بدت نهايات الأقاصيص في الغالب مشحونة بمعاني الأمل والتحدي، فإن جراح الذاكرة في المدينة والوطن، ومعاناة الشخصيات، تتلقفها إغراءات الهجرة والإرهاب وشبكات التواصل الاجتماعي، لم تستطع الصمود، ولم تجد دائمًا من يضمّدها أو يحوّلها إلى قوة مواجهة.

في هذه الأقاصيص، تنكشف هشاشة الإنسان موصولة بهشاشة الأوطان. تنكشف خدعة الشعارات الرنانة، تصوغها نخبة تؤدلج الواقع وتزيفه، عوض أن تغيّره.. تتعرى الشعارات، وتنقلب ضحكة في أفواه جيل جديد لا يتفاعل مع الأكاذيب.. فالأب المؤمن حد النخاع بقضايا الأمة العربية ("حين يخون الياسمين")، هو نفسه الذي ستواجهه ابنته الصغيرة "عروبة" بكثير من البراءة، ساخرة من شعاراته، قبل أن تسخر منه الحياة، بعد احتلال العراق على أيدي التتار الجدد واغتيال صدّام حسين، وبعد حصار فلسطين، فإذا "العدو عبريّ لا يرحمها، والجار عربيّ لا يهبّ لنجدتها".. ويتزامن موت الأب مع تاريخ رمزي، هو يوم اغتيال شكري بلعيد في تونس، ليتأكد موت الحلم وأمل الثورات الكاذب...

وقد تغيب ابتسامة الحياة في دروب المدينة وأحيائها (حي المعسكر)، فتغدو جراح الذاكرة أقوى من أن تضمدها الكلمات.. في رمزية شفافة لندوب الحاضر التائق إلى حرية غائبة.. ذلك أن دروب الطفولة وذكريات الصغر المنقوشة على جدران ذلك الحيّ العتيق، ما زالت تحمل أسماء قادة الاستعمار ورموزه، "رغم رحيل العسكر"...

المدينة هي أيضًا تلك التي تطرد أبناءها ولا تحنو عليهم.. تتجاهل تفوقهم العلمي ونضالهم في سبيل المعرفة، رغم الضيق المادي، ترمي بهم في أحضان المجهول، لتكون الهجرة أفقهم الوحيد، رغم أهوال المغامرة، هربًا من "وطن فرّط فينا واحتال علينا" ص62. وقد ترمي بهم شبكات التواصل الاجتماعي في شعاب التطرف الديني، أو تغويهم بسحر المال والشهرة، قبل مواجهة نهاياتهم الحزينة (من وراء قناع).. تقدم هذه الأقاصيص نموذجًا آخر للشخصية القصصية التي تحاول التحليق خارج أسوار الهزيمة والخيبة، وتصنع لنفسها "جناحين كبيرين من الأمل، لكن ما كان الأمل كافيًا ليحلق به خارج أسوار هذا العالم الزائف" ص25.

تجلو النهايات في هذه الأقاصيص خيبة الإنسان في مواجهة أوجاعه، وعجزه عن المقاومة حين تتسع رقعة الجراح، وتحمّل الشخصيات الوطن المسؤولية عن خيبتها. "لا شيء يعمل في هذه البلاد، وكأن لعنة أصابتها... وهذه المدينة المنسية، غافية على أطراف البحر، لولا الجسر الذي يصلها بالجانب الآخر، لأضحت منطقة نائية معزولة عن الحياة..." ص103. حين يتجاوز الألم الفرد إلى أوجاع العالم، يعجز الفعل عن تحويل الجرح إلى أمل، كما وعد العنوان، وكما وعدت بعض عتبات الأقاصيص...

لقد نجحت الكاتبة في مجموعتها القصصية الأولى، بعد كتاب شعري، في رسم ملامح نفسيات الشخصيات وتفاعلها مع سياقاتها الاجتماعية، وحتى الإيديولوجية أحيانًا، في لغة تراوح بين جمالية شعرية وغنائية مرهفة، وبين تداخل اللغات، تعانق فيها الفصحى اللهجة العامية أحيانًا، والصور الشعرية أخرى، إضافة إلى شفافية في الرموز تفتح أبوابًا عريضة للتأويل. وقد بدت جلّ الشخصيات في المجموعة رافضة للانهزامية، ساعية إلى تجاوز ندوب الأيام وجراحات النفوس، بفتح آفاق للتغيير واستعادة مفهوم الأمل. ونهض الوجع الذي عاشته بوظيفة المحرّك القوي للفعل السردي، وإن فضح في قصص أخرى هشاشة الإنسان وضعفه. فكان الوجع القادح الأكبر لكسر أسوار الضعف، وسبيلًا لبناء الشخصية ذاتها، ومواجهة الأخطار التي تتهدّدها، ونحت ملامح إنسان جديد.

ويبقى مع ذلك السؤال: إلى أي حدّ يمكن للقصة، مهما أبدعت في رسم واقع مشحون بالأمل، وفي بناء شخصيات تجاهد لتحدّي خيباتها، أن تبذر في المتلقي أملًا قد يجدد نظرته لواقعه ولذاته؟


المراجع :
1- دنيا الحبيب: "علّها تتبسّم الحياة"، دار سحر للنشر، ط1، تونس 2025.
2- حسين بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1990، ص 210.
3- محمد العمري: البلاغة الجديدة بين التخييل والتداول، أفريقيا الشرق، المغرب، ط1، 2005، ص 100.