داخل الجنة وليس خارج الجحيم

محمد آيت حنا يتناول في كتابه الموسوم بـ'مكتباتهم' دوافع القراءة وشكل المكتبةِ وتوافدَ الإصدارات إلى أحضانها، منوهاً في هذا السياق إلى آراء مشاهير طابتْ لهم الإقامة في جنة المكتبة دون أن يكونَ ذلك هروباً من العالم.

يستمدُ النشاطُ المعرفي زخمه من أشكلة المفاهيم والمُعطيات الفكرية والظواهر الثقافية وكون القراءة نواةً في بناء العقل الجدلي لذلك فمن الطبيعي أنَّ يكونَ السؤالُ بشأنِ الكتاب  والعناوين المكونة للمكتبات وأنواع القرُاء جزءاً من أجندة المشائين في غابة هذا العالم المُمتد على جغرافية الأرفف، والأدراج.يتخيلُ للمتابع بأنَّ المكتبات قد تعاني من تضخمِ المحتوى وندرة القراء،لأنَّ مهنة القراءة حسب رأي الكاتب المغربي محمد آيت حنا أصعبُ وأشقُ من مهنة الكتابةِ لذا فمن المتوقع أن نشهدَ عزوفاً عن القراءة مقابل تصاعدِ عددِ الكُتاب والمؤلفين.

على أية حال فهذا مجردُ توقعُ أو فرضية ربما تثيرُ  نقاشاً   وسطَ صفوة من المُغرمين بالقراءة النوعية.

ومن المعلوم إنَّ الوسائط الجديدة تزاحمُ الكتبَ في العصر الراهن، الأمر الذي يضعُ مصير المكتبات أمام تحدٍ  أكبر بقدر ما يحركُ الحنين إلى الأجواء التي تَتَصدرُ فيها الكتبُ المشهدَ ولاتنفصلُ فيها المكتبةُ عن التصميم المكاني.

وما يؤكدُ على وجود إرادة لصيانة المكتبة وعدم تعويضها بمايختزنُ مئات العناوين في كمشة يدٍ وما يؤكد على الانحياز النفسي للكتب الورقية هو التحول إلى الكتابة عن الكتابة وبرز العديدُ من الأسماء في هذا المجال لعلَّ الكاتبَ الأرجنتينى ألبرتو مانغويل  هو الأشهر من بين هؤلاء.

ومن جانبه يتناولُ محمد آيت حنا في كتابه الموسوم بـ"مكتباتهم" دوافع القراءة وشكل المكتبةِ وتوافدَ الإصدارات إلى أحضانها، منوهاً في هذا السياق إلى آراء المشاهير  الذين طابتْ لهم الإقامة في جنة المكتبة دون أن يكونَ ذلك  هروباً  من العالم.

المتاهة

يعودُ حنَّا إلى الجذور باحثاً عن جينات القراءة في سلالة العائلة فيبدو صعباً الاهتداء إلى القاريء الأول في شجرة الأجداد من الأب والأم فأينما يولى الوجهَ تداهمه رائحة الأرض لأنَّ الجميعَ كانوا فلاحين لكن يتناهي إليه بأنَّ أسلاف أمه قد نشأَ بينهم من تلقى الدراسة الدينية وقد سمع عن وجود مكتبة في تاريخ العائلة لكن عناوينها قد اندثرت.ومن هنا تبدأُ رحلة  محمد آيت حنا  في المتاهة إذ كانت الكتبُ حاضرةً في أرومة العائلة غير أنَّ هذه النفائس لم تستقر في الخزائن لذلك بعثرتها عاديات الدهر.

واللافتُ في هذه الومضة السيرية أنَّ المؤلف يعلنُ صراحةً بأنَّه تمنى لو كانَ وارثاً للمال بدلاً من الكُتب.هل يُفهمُ من فحوى كلامه بأن تجربة الواقع لابُدَّ أن تسيق الشغف باقتناء الكتب والاعتكاف على القراءة، أوينبيءُ بأن جرثومة المبدأ النفعي قد تسربت إلى تلافيف عقل القاريء؟

على أية الحال فإنَّ المُغرم بِمُفاجآت المتاهة ينبشُ في طبقات البيوت إلى أن يتمَّ تشكيل مكتبةٍ قوامها ماتناثرَ في تربة الآخرين وفي الواقع أنَّ المؤلف يسرُ بالمديونية للغير من عتبة العنوان.يذكرُ الكاتبُ بقدر الكوكب الذي احتضن الإنسان وملحقاته ويبدو بأنَّ الكتبَ يموازاة البشر تزحفُ باسطةً هيمنتها على مزيدٍ من المساحات.

والحال  هذه يجبُ التفكيرُ في مصير المكتبات في عالمٍ ستتفاقمُ فيه أزمة السكن.هنا يتوقعُ المؤلفُ بأنَّ الكتابَ كما هو المتعارف عليه ورقياً هو إلى زوالٍ حسب افتراضه لشكل المستقبل وتحدياته.إذ يتعودُ الأحفادُ على القراءة من خلال حوامل أخرى وربما يصعبُ عليهم فكَّ الأحرف الراقدة في الحوامل الورقية تماماً كما يشقُ علينا إدراك مغزى الرسوم التي طبعها أسلافنا على جدار الكهوف.

إذن لاتختفي مهنة القراءة بل تحلُ المكتبات المحمولة في أقراص مدمجة مكان مشهد رص الكتبِ في الهياكل الخشبية ويرى المؤلف بأنَّ قانون الانتخاب الطبيعي ينطبقُ على الكتب أيضاً إذ تُعدم العناوين كلها ويتم الاحتفاظ بنسخة جيدة الطبع من كل كتاب.

ولايفوضُ نفسه باختيار مايكونُ مناسباً للأجيال القادمة من العناوين أو سن المعايير المُتبعة في عملية تحديد المُنتخبات.

بالطبع كل ما وردَ آنفاً عن مستقبل الكتب ليس إلا افتراضاً لايمكنُ البت بصحته من عدمها.يواصلُ محمدُ آيت حنا الحفر في موضوعه الأثير لافتاً إلى رؤية العديد من الشعراء والمفكرين بشأن المكتبة فبنظر فالتر بنيامين إنَّ المكتبةَ ليست فضاءً لحفظ الكتب فحسب إنما هي سيرورة لانقع على بدايتها.

وما يشدُ الانتباه هو كلامُ محمد آيت حنا عن الطابع الخصوصي في إنشاء المكتبة والانخراط في عالمها فهذه العلمية لن تكون إلا شأناً فردياً.إنَّ إضافة العناوين إلى مكتبة موروثة لاتعدُ سداً للثغرات في هيكليتها أو استكمالاً لغير المُكتمل بقدر ما يكونُ تدشيناً لبداية جديد.

كما أنَّ تراكم الكتب والإدمان على جمعها لايضفي هوية إلى المكتبة ولا تميزاً لصاحبها بل يستمدُ هذا الفضاء تميزه من محتوياته التي تكشف عن التذوق في الاختيار فكان فالتر بنيامين قد أبدى رغبةً باقتناء كتب الأطفال والمجانين.يتطرق المؤلفُ إلى عراك القاريء مع كل من الوفرة والندرة. وموقفه من تحديات كلتا الحالتين  ذاهباً إلى أنَّ الندرة أهونُ لأنَّ الوفرة تهوى بالحواس نحو الخمول إلى هنا يفتحُ آيت حنا القوسَ  على سؤالٍ قد يكونُ بسيطاً في الظاهر لكنه لافتُ للانتباه إلى  ظاهرة تضخمَ صُناع الكتب وغياب القاريء.ماذا يكونُ عليه المشهدُ لو صار الجميعُ كُتاباً؟

الأفضلية

مابرحَ الجدلُ يدورُ حول ثنائية القاريء والمؤلف وشكل العلاقة بين الطرفين ويدلي كثيرُ من الكتُاب بآراءٍ تنمُ عن عدم  الاهتمام بما يقولهُ القاريء، لأنَّ مايهمهُ بالدرجة الأولى هو حظوته التي يتمتعُ بها لدى النخبة.وفي الواقع أن تلصصَ الكاتب على آراء الجمهور القراء واستراقه السمع لكلامهم يخالفُ مايُعلنهُ من برجه العاجي.

لن تكونَ الأفضلية في برنامج محمد آيت حنا إلا للقاريء فهو المحرك للركود الكامن في طيات الصفحات.إذن فالكلمة للقاريء لأنَّ الأخير يقومُ بانتشال النص من من حصار الصمت.ومن الظواهر  التي تغطيها حلقات الكتاب شراءُ القراء مقابل الأموال راح والكلام على عهدة محمد آيت حنَّا عددُ من الكُتاب ضحية لأحابيل هذه المناورات التسويقية.وتقعُ ضمن متابعة المؤلف لأروقة المكتبة على نبوءة الكاتب الأرجنتيني "خيولو كورتثار" عن استنزاف الورق وإبادة أشجار الغابات جراء تضاعف عدد الكُتاب.

تتضمنُ هذه السردية قصصاً فرعية منها مايستعيدهُ الكاتبُ عن سيرة مُتخيلة لابن سينا حيثُ يتسللُ الأخير بصحبة شقيقه إلى مغارة المكتبة التي ستنغلقُ على من يتأخر ولايخرجُ قبل نهاية المهلة المُتاحة.

لاتوازي متعة إحصاء الكتب التي قرأناها سوى تذكر جغرافية مكتبات حظينا بالاندساس بين ممراتها هنا تلوحُ في ذهني ذكرى ارتيادي لمكتبات دمشق بعضها كانت بطابقين وعندما أسالُ  عن عنوان حتى ولو لم يكنْ متوفراً مايُخيب صاحب المكتبة أملي إذ يعدني بأنَّه سيطلبه من مكانٍ آخر.من مواصفات المكتبات بما فيها المكتبة الشخصية حسب رأي حنَّا. التبدل ومتعة الاكتشاف والمُفاجأة علماً بأنَّه لايوجدُ مهندس سوانا قد تكفلَ ببناء زاويته التي تمتدُ مع شروعها على المزيد من العناوين، مايخلف الشعور بالاختناق بالنسبة لمحمد آيت حنا هو الازدحام في المكتبة وغياب الفراغ في تكوينها.وكان الشاعر السويدي ترونسترومر  شغوفاً بمكتبة واقفة في الفراغ لأنَّ مايشاهده ينبيء بالاستعداد لاستقبال مزيد من الكتب.

ونحن بصدد الحديث عن المكتبة قد يخطرُ على البال سؤالُ هل هناك عمرُ محدد للقراءة؟ إذا كان المرءُ لايمكنهُ أن يتابعَ القراءة عندما يبلغُ من العمرِ عتياً لماذا يجمعُ الكتب بالاستمرار؟

يرى محمد آيت حنا أن رؤية المكتبة وحدها وإمكان لمس الكتب من حين وآخر يخلفان في النفس لذةً مايعني أنَّ المداخل إلى عالم الكتب متعددة إذ يكفيك أحياناً تأمل محتويات المكتبة أو تصفح العناوين النادرة أو إعادة  ترتيب الكتب لالتذاذ بروح المكان.

مايثيرُ الاستغراب  هو قسوة آيت حنا في رأيه عن الكتب التي تغادرُ المكتبة في عرفه مايخسرُ جدارة البقاء ضمن كتبك المفضلة لايحقُ له الارتحال إلى جغرافية مكتبة أخرى.

نشأة القاريء

لايولدُ الإنسانُ قارئاً وقد لايدينُ إلى المؤسسة أو الأسرة أو المدرسة في اختياره المُصاحبة للكتب واتخاذه المكتبة معبداً للفكر.يقول سارتر إنَّه قد تعلمَّ القراءة من خلال تقليبه لصفحات كتاب  "بلا عائلةٍ" لإكتور مالو.إذن القراءة انزياح عن السياق المألوف وتثوير للمناخ الراكد  ربما يوجدُ من لايوافقُ آيت حنَّا في قوله بأنَّ القراءة ليست إلا نمطاً للوجود ولايكتسبُ المرءُ مرتبةً شرفيةً بانخراطه في هذا المضمار لكن هذا الرأي يعبرُ عن ضرورة التواضع في الاشتغال المعرفي.

والأهمُ مما يجبُ أن لايغيبُ في أجندة القاريء هو الإدراك لصنفين من الكتب أحدهما يوهمك ولو للحظة بأنَّه أصبحَ بديلاً لغيره على الإطلاق ويملأنا حد تعذر قراءة أي كتاب آخر بعده  فيما الآخر يفرغك من التراكمات الناجمة من القراءات ويسحبُ الأوهام الناشئة من التماهي مع العناوين التي أخذت بتلابيب العقل والقلب.

صفوة القول عن مضامين كتاب محمد آيتا حنا أنَّه تمكن من أن يحول فعل القراءة إلى مفهوم إشكالي تتوالدُ في إطاره سلسلة من الأسئلة الجوهرية.يتخيل بورخيس الجنة في شكل المكتبة لكن قد يكون في الجنة مايشغلنا عن الكتب لذلك من الأفضل أن لايبدأُ من الآن التصارعُ على الكتب بين أصحاب الجنة وأهل النار.