رئيس وزراء عصبي غير متفرع للولاية العامة في الأردن

أليست معارك الخصاونة منسجمة مع الحجم الحقيقي الذي باتت تنحصر فيه سلطات رؤساء الوزارات في الأردن؟ وعند ذلك لا ملامة ولا حرج.
مثل موظف في الادارة الوسطى يؤدي ما يُطلب منه وحسب الى ان يتم استبداله سريعا
عصبية رئيس الوزراء غير قابلة للمراجعة أو التهدئة وتظهر على خط آخر بعيد حتى عن توجهات الملك

يُعرف عن رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة إنه "عصبي" المزاج وسريع الغضب لكن أحدا لم يلاحظ حدة انفعاله في أي من الجوانب الرئيسية المرتبطة بالحكم ولم يُسجل له اي اشتباك حول صلاحياته الدستورية في "الولاية العامة" على البلد.
اشتباكات رئيس الوزراء هي مع اشخاص وحول مسائل ينبغي ان تكون على الهامش وألا تثير اهتمام مسؤول بهذا المنصب، من المفترض ان لديه ما يكفيه من العمل للانشغال عما دونه من معارك هوائية، هي اخر ما يحتاجه الأردن الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة وتحاول اجهزة الحكم الخروج بصيغة ممكنة للإصلاح السياسي.
مواطن قال ان زوجة رئيس الوزراء تتقاضى مبالغ من مؤسسات حكومية دون وجه حق. اختار الخصاونة التوجه الى القضاء والمطالبة بتعويضات مالية من كميل الزعبي المعتقل منذ حوالي اسبوعين.
نائب جلس على المقعد المخصص لرئيس الوزراء في البرلمان إظهارا لاحتجاجه على رفع الاسعار. الخصاونة يغضب ويغادر مع فريقه الحكومي اولى جلسات الدورة الاستثنائية الأخيرة لمجلس النواب. 
لم يشهد الناس اي غضبة للرئيس حين ارتفعت نسبة الفقر بين السكان الى الربع وبطالة الشباب الى النصف والدين العام الى 50 مليار دولار، متجاوزا قيمة كل ما ينتجه البلد من سلع وخدمات.
ماذا لو جلس الخصاونة على اي مقعد متاح وكان أكثر تفرغا لجدول اعمال الدورة التي ازدحمت بـ11 مشروع قانون؟
لم يلاحظ الناس اي ملامح انفعال على رئيس الوزراء تجاه الحالة الحقوقية في المملكة وتقارير المنظمات الدولية والمحلية التي تنبه الى مخاطر تقييد الحريات العامة واعتقال الناشطين وزيادة القيود على حرية التعبير. 
نائب اخر قال لرئيس الوزراء "اتق الله" في معرض مطالبته بإصلاح طريق دولي يمر في دائرته الانتخابية، فما كان من الخصاونة الا ان رد عليه بعبارات أوصلها الغضب الى مستوى غير مفهوم: أنا متقي الله من قبل 5 آلاف سنة ولبعد 5 آلاف سنة!
هذا الموقف على عجائبيته، احتاج الى وساطة من أحد النواب لعقد "صُلحة" بين زميله ورئيس الحكومة في "عزومة" طويلة عريضة حضرها نواب ووزراء وأولمت فيها المناسف ليتناول فيها المتخاصمان الملح والزاد معا ويطويا صفحة الخلاف العميق!
هذه السوريالية ربما تنبئ بالطبائع الشخصية لرئيس الوزراء لكنها بالتأكيد تعكس الحالة التي وصل اليها هذا المنصب خلال العقود الاخيرة في المملكة، حيث يعلم الناس جيدا الحدود المرسومة لرئيس الوزراء في اتخاذ القرارات والمواقف.
ما يعتبره الأردنيون تغولا على الحكومة من اجهزة الحكم الاخرى، يمثل العامل الاساسي في تحجيم دور رئيس الوزراء ووضع اطار صارم ومتفق عليه حول هامش التحركات المسموحة للحكومة، مع ان الدستور اناط بها "مسؤولية ادارة جميع شؤون الدولة الداخلية والخارجية".
هذه "الولاية العامة" تخلى رؤساء الحكومات المتعاقبة عن أبرز مقوماتها، حتى بدا شاغل المنصب التنفيذي الأول مثل موظف في الادارة الوسطى يؤدي ما يُطلب منه وحسب، الى ان يتم استبداله سريعا بموظف آخر في المملكة التي اعتادت على كثرة تغيير الحكومات بمعدل حكومة جديدة كل سنة.
أليست معارك الخصاونة مناسبة ومنسجمة مع الحجم الحقيقي الذي باتت تنحصر فيه سلطات رؤساء الوزارات في الأردن؟ وعند ذلك لا ملامة ولا حرج في اعتقال كميل الزعبي بمداهمة امنية وإصرار رئيس الحكومة على إكمال إجراءات التقاضي ومنها طلب تعويض بقيمة 28 الف دولار من الزعبي الذي يبيع القهوة على الطريق.
لم تكن الحكومات هكذا في فترات سابقة من تاريخ المملكة. وفي مثل هذه "المعارك"، يتذكر الأردنيون رئيس الحكومة الراحل وصفي التل الذي شغل المنصب في ستينيات القرن الماضي. وقال ذات يوم تعليقا على سجن مواطن شتمه "يلعن ابو وصفي التل الذي تسجنون الناس من اجله".
من نافل القول ان على شاغلي المناصب العامة ان يتحملوا النقد وما هو أكثر منه احيانا. غير ان رئيس الوزراء لم يتراجع، رغم كثرة المناشدات والدعوات، عن الشكوى القضائية ضد الزعبي التي قال انه تقدم بها بصفته "الوظيفية والشخصية".
عصبية رئيس الوزراء غير قابلة للمراجعة او التهدئة او صرف النظر، وتظهر على خط آخر بعيد حتى عن توجهات الملك عبدالله الثاني الذي أمر قبل أشهر بوقف الملاحقات في القضايا التي تتضمن اساءة شخصية له او ما تعرف بـ"إطالة اللسان".
وفي اشتباكاته مع النواب، ربما لا يلام الخصاونة ايضا وهو يعلم، مثل كل الأردنيين، بأن البرلمان ما هو إلا ديكور آخر في مؤسسة الحكم وأن ما يشهده الناس من مجلس النواب لا يعدو عن كونه استعراضات وشعبويات موجهة الى الناخبين ووسائل الاعلام. وبالتالي فالاستعراض مسموح ايضا لرئيس الوزراء!
يراقب الناس هذا الأداء الفولكلوري ويتسلون به في حياتهم وسبل عيشهم التي باتت تضيق يوما بعد يوم حتى انطبع في أذهانهم ان الحكومة والبرلمان في واد، والحكم الحقيقي في واد آخر، ولربما هم ايضا في واد ثالث.
أما كان باستطاعة رئيس الوزراء الرد على النائب الذي دعاه الى تقوى الله بالقول مثلا "شكرا. انا اتقي الله"؟ لعل الله "يجعل لنا مخرجا" مما نحن فيه من أزمات.