صراع جيوديني في سوريا

دور كبير للتنظيمات الدينية في الأزمة السورية، ليست الإسلامية وحسب.

لكل مسألة أبعاد عدة وأسباب متشعبة تسمى أحيانا في علم التاريخ بالأسباب المباشرة والأسباب البعيدة ولأن الأزمة السورية من أكثر الأزمات تعقيدا في الوقت الراهن وربما أكثرها تعقيدا عبر التاريخ فمن الواجب دراستها من جميع أبعادها للوقوف على أسبابها ومحركاتها ودوافعها ووقودها. ولعل من أهم هذه الأبعاد البعد الديني ودور المؤسسات الدينية في إشعال هذه الأزمة أو تحريك خفاياها ويشمل ذلك تنظيمات المذهب السني والشيعي وبعض التنظيمات المسيحية النافذة حول العالم ولعل أهم ما في الأمر أنهم جميعا قد ربطوا الأزمة بمعارك آخر الزمان حسب النبوءات الموجودة لدى كل طرف.

البعد الديني لم يتخذ شكل الدافع العقائدي فقط بل ارتبط بالبعد الجغرافي في المنطقة وهذه نقطة في غاية الأهمية يجب دراستها بدقة شديدة. فالتنظيمات الإسلامية السنية اهتمت ببعض المناطق في الجغرافيا السورية مثل الغوطة ومرج دابق اعتمادا على نصوص دينية والتنظيمات الشيعية ربطت الأزمة بظهور المهدي في الشام اعتمادا أيضا على نصوص دينية كما أن بعض التنظيمات المسيحية حاولت التوغل داخل مناطق جغرافية معينة تعتبرها مقدسة عبر التاريخ أو راهنت هي أيضا على معركة آخر الزمان والتي تسمى في عقائدهم هرمجدون عند ظهور المسيح مرة أخرى.

على غرار مصطلح الجيوسياسي نستطيع اختراع مصطلح الجيوديني لأننا نلاحظ أن النصوص الدينية قد جعلت مجمل صراعات آخر الزمان تتركز في بلاد الشام قبل نهاية العالم مع ذكر مناطق محددة ضمن هذه الجغرافيا الشامية فأحاديث الرسول تدل دلالة واضحة باللجوء إلى الشام حين تحدث الفتن في آخر الزمان وأن الدجال والمسيح سيخرجان من الشام وكذلك المهدي المنتظر لدى كلا المذهبين السني والشيعي بينما يعتقد الأصوليون المسيحيون الإنجيليون أن معركة كبرى ستحدث في الشام وتسمى معركة هرمجدون وهي من معارك آخر الزمان.

في تحقيق نشرته وكالة رويترز في مارس 2014 أكد جميع المقاتلين الإسلاميين ممن شملهم التحقيق أنهم لم يأتوا إلى سوريا لمحاربة الأسد فقط بل من أجل شأن أكبر يتعلق بملاحم آخر الزمان ولذلك تمسك المقاتلون بشدة بالغوطة اعتمادا على حديث الرسول: فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها دمشق من خير مدائن الشام. وعلى نفس النهج تمسكت داعش بقرية دابق التي تقع شمال حلب بخمسة وأربعين كيلومترا بالقرب من أخترين حيث ورد فيها حديث: لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق تحت ثمانين غاية تحت كل غاية إثنا عشر ألفا. ثم يسترسل الحديث عن تفاصيل المعركة وكيف يعلن الروم انتصار الصليب ثم ينتصر عليهم المسلمون فيما بعد وكانت داعش تعتبر هذه الرايات الثمانين قوى التحالف الدولي التي تحشدت لقتاله وقد اتخذت داعش من هذه النبوءة النبوية وسيلة مهمة لحشد المقاتلين من جميع دول العالم.

في نفس الفترة مع تدفق مقاتلي الشيعة إلى سوريا صرح البرلماني الإيراني روح الله حسينيان لوكالة فارس للأنباء أن الإمام الصادق قال عندما يتقاتل ذوو الرايات الصفر مع أعداء الشيعة في دمشق وتنضم إليهم القوات الإيرانية سيكون ذلك تمهيدا لظهور المهدي ويقصد بذوي الرايات الصفر جماعة حزب الله وعلى هذا الأساس تم تجنيد الآلاف من شيعة أفغانستان وإيران وجنوب لبنان في الأزمة السورية.

يقول الكاتب اليهودي آرمين لانغر في مقالة لدويتشة فيلية بعنوان "ترامب يحضر القدس لمعارك آخر الزمان" بأنه لا يمكن إغفال البعد الديني لما يحدث من معارك وأزمات في الشرق الأوسط بل إنه يؤكد تأثير هذه الجماعات على مسار دول كبرى مثل أميركا حيث يرى الكاتب أن محاولة ترامب نقل سفارته إلى القدس لا تأتي تأييدا لليهود بل تأييدا للأصوليين الإنجيليين في أميركا والذين يحاولون توريط اليهود في معارك آخر الزمان لأنهم يعتبرون اليهود أصحاب عقيدة فاسدة وسيتحولون إلى الدين المسيحي بعد نزول المسيح في القدس في معارك آخر الزمان.

يضيف لانغر بأن يهود أميركا والبالغ عددهم حوالي سبعة ملايين يهودي وهو أكبر تجمع يهودي في العالم لا يؤيدون نقل السفارة إلى القدس حسب استطلاع أجرته منظمة اللوبي اليهودي جي ستريت في عام 2014 و2017 حيث تبين أن ثمانين بالمئة من اليهود يؤيدون حل الدولتين ويرفضون نقل السفارة إلى القدس لكن منظمة إنجيليين بلا حدود CUFI  والبالغ عدد أعضائها مليوني عضو عدا عن الجمعيات الإنجيلية الأخرى تسعى بخطى حثيثة لتجميع يهود الشتات في فلسطين ثم زجهم في معارك آخر الزمان حسب النصوص التي وردت في الكتاب المقدس العهد الجديد.

حسب هذه الرؤيا من لانغر فإن ترامب يحاول توريط اليهود لا خدمتهم خاصة أنه يعتمد كثيرا على أصوات الإنجيليين البالغ عددهم حوالي 80 مليونا في أميركا حسب بعض الإحصائيات و285 مليونا حول العالم ولا غرابة في ذلك فالتنظيمات الأصولية الدينية كلها تدعم بعضها وتحاول توريط بعضها ومن مصلحة كل تنظيم أن يتضخم التنظيم الآخر لأن كل تنظيم يتغذى على الآخر ولذلك نرى إيران تدعم التنظيمات السنية كحركة حماس في فلسطين والإخوان المسلمين في مصر رغم اختلافها العقائدي معها وتسعى التنظيمات الإسلامية المتطرفة إلى دعم اليمين في الغرب عبر تنفيذ تفجيرات وأعمال إرهابية قبيل الإنتخابات في تلك الدول لزيادة فرص اليمين في الفوز لأن تضخم التطرف واليمين في الغرب يعطيها فرصا أكبر للبقاء حيث تعاضد التنظيمات الأصولية بعضها لأنها تنبع من مشكاة واحدة.

بهذه الطريقة تتم صناعة ما تسمى بالفوضى الخلاقة وللتنظيمات الدينية دور أكبر في صناعتها لأنها في عصر ما بعد العولمة أصبحت تمتلك أموالا كبيرة وشعبية واسعة وذلك لوجود النفط الذي يغذي التنظيمات السنية والشيعية في الشرق ووجود الضرائب والتبرعات التي تغذي المؤسسات اليهودية والمسيحية في الغرب ومن هذا المنطلق نستطيع فهم تأييد بابا الفاتيكان لأرضوغان قبل احتلاله لعفرين حيث دعاه وباركه قبيل الإحتلال كدعم من المؤسسة الكاثوليكية لأن هذا الإحتلال سيخلق مزيدا من الأزمات والتوترات الدينية والعرقية في المنطقة.

أهمية منبج جيودينيا

في الآونة الأخيرة احتدم الصراع حول منبج وتحشدت الجيوش على تخومها بعد قرار ترامب بالإنسحاب الأميركي من سوريا حتى كادت تنذر بحرب عالمية بسبب شدة التنافس واليوم يتربص الجميع بمنبج ويحوم حول حماها وبات الجميع من نظام ومعارضة وروسيا وتركيا والتحالف يسير دوريات حولها ولكن ما هي أهمية منبج حتى تحوز كل هذا الإهتمام؟

بالمفاهيم العسكرية الحديثة وتطور التكنولوجيا العسكرية ليست هناك أهمية لمنبج فهي مجرد موقع كأي سهل آخر منبسط في سوريا ولا أهمية لها ضمن مناطق الطاقة والنفط أيضا لكن لها أهمية دينية تاريخية وهو ما يهمنا في بحثنا هذا فمدينة منبج تعتبر من أقدس المدن التاريخية سواء في المشهد الوثني أو المسيحي فيما بعد فحين بناها الحثيون وسموها مبوك أصبحت مركزا للإله حدد وما زال هناك جبل بإسمه حتى اليوم (جبل أدد) ثم أصبحت عاصمة للآراميين فبنوا فيها معبد المرمر لآلهة الخصب والمياه آتار تاغيس ثم أصبحت محجا للعالم القديم حيث كان الناس يفدون كل عام للتبرك بالمياه المقدسة وعبادة آتار تاغيس ومن هناك نقل الحجاج اليونانيون عبادة هذه الآلهة إلى جميع أنحاء أوروبا وغدت محجا ومقصدا للأوربيين.

بعد سيطرة الإغريق على منبج في عهد الإسكندر الأكبر أصبحت المدينة من أهم المدن الدينية وسميت هيرابوليس أي المدينة المقدسة وفي عام 64 قبل الميلاد سيطر عليها الرومان وأصبحت من أهم القواعد الدينية والعسكرية للرومان حتى أن أميرة من منبج هي تيودورا المنبجية أصبحت إمبراطورة بيزنطة في وقت من الأوقات وكان في منبج أجمل كنائس الأرض آنذاك ومنها الكنيسة الخشبية الفريدة من نوعها في العالم والتي لم يبق من أثرها شيء اليوم وتعتبر منبج هي المركز الذي حمل منه الصليب المقدس إلى أنحاء أوروبا ولذلك تبقى مقدسة في وجدان الأصولية المسيحية حتى اليوم حتى انها تعتبر من المدن القليلة التي اهتم الصليبيون باحتلالها بعيدا عن سواحل الشام.

تعتبر الأصولية المسيحية أن الأتراك والمسلمين قد ورثوا إرث بيزنطة وأن الدول الحديثة المقسمة حسب سايكس بيكو قد ورثت إرث العثمانيين والدولة الإسلامية وبعد مرور مئة عام على هذه التقسيمات ترى الأصولية المسيحية والإسلامية أن الإرث يجب أن يقسم من جديد فروسيا والكنيسة الأرثوذكسية ترى نفسها أحق بإرث بيزنطة ولذلك باركت الكنيسة الأرثوذكسية التدخل الروسي في سوريا واعتبرته حربا مقدسة كما كانت تراه اليونان في بدايات القرن العشرين حين دخلت في حرب طاحنة مع تركيا والكثير من الكنائس الإنجيلية ترى نفسها أحق بذلك وترى تركيا أنها أحق بمنبج وحلب وأنها وريثة بيزنطة الوحيدة ولذلك يحتشد الجميع حول منبج بما فيها قوى التحالف وبضغط من المؤسسات المسيحية الغربية وحتى الشرقية فالمؤسسات السريانية ذات نفوذ كبير في الغرب وترى نفسها أحق بالمناطق الكردية وبعض المناطق العربية مثل منبج التي ترجع تسميتها أساسا للغة السريانية بعد أن كانت تحت سيطرة السريان لفترة طويلة من الوقت.

إهتمت الأصولية الإسلامية أيضا بهذه المناطق مثل كوباني ومنبج والتي لا تشكل بعدا دينيا في نصوصها كما هو حال الغوطة ودابق ولكن لعلمها باهتمام الأصولية المسيحية بها ربما عن طريق مخابرات بعض الدول الإقليمية التي تدعم هذه الجماعات ولذلك اهتمت داعش بالسيطرة على كوباني رغم أنها ليست منطقة غاز أو نفط وليست ممرا حيويا ونستطيع هنا أن نفهم لماذا سمتها بعين الإسلام وذلك لمعرفتها بأطماع الأصولية المسيحية فيها لأنها تعتبرها مدينة مسيحية بنيت على يد الأرمن وعرفت بكنيستين ويدعي الأرمن أنهم خرجوا من كوباني مضطهدين وتعتبر الجالية الأرمنية من جماعات الضغط الكبرى والمؤثرة في السياسة الأميركية وعلى إثر ذلك تتواجد المنظمات المسيحية والتبشيرية بكثافة في كوباني اليوم.

مع قوة نفوذ هذه الجماعات المسيحية الشرقية في الغرب من أرمن وسريان فإنهم يقفون دائما ضد قيام الدولة الكردية ويؤثرون على الكنائس الغربية وذلك لأنهم يعتبرون المناطق الكردية ميراث الدولة الآشورية والسريانية والأرمن بعتبرونها تاريخيا جزءا من أرمينيا الكبرى ولذلك وقفت الجماعات المسيحية الشرقية ضد استفتاء إقليم كردستان واستخدمت نفوذها بشكل مكثف في ذلك.

في المحصلة فإن البعد الديني ليس هو الشيء الوحيد في هذه الأزمة ولكنه جزء مهم يضاف إلى الأبعاد السياسية والإقتصادية والإجتماعية فالمؤسسات الدينية في عصر ما بعد العولمة وتحكم الشركات في العالم أصبحت هي أيضا شركات مثلها مثل شركات السلاح وإعادة الإعمار التي تلعب دورا مهما في هذه الحروب وتكمل بعضها بعضا فلكل واحد أوانه ووقته وزمانه ومكانه.