علي الوردي.. العشيرة أَصدَق أَنباء!

المُغتصَبات مِن البيوت لا تُعد ولا تُحصى ببغداد، ولو كان الوضع سليماً، هل يحتاج إخراج مستأجر إلى أرتال عسكريّة؟

سمعنا صوت ابنة عالم الاجتماع عليّ الوّرديّ (1913-1995)، تناشد مَن ينصرها لاسترجاع دار أبيها، لتكون مُتحفاً لتركته الفِكريّة، فالعلامة ليس لديه سوى راتبه من التّدريس، وما درت عليه كتبه، وهي أكثر المنهوبات، فقد ظهر وكلاء متعددون، كلٌّ أعلن أنه صاحب التّخويل بطبعها، واستنسخت بغزارة، بل استلت فصول منها، ونُشرت في كتب.

أقول: لو عاد ريع كتب الوَرديّ على أسرته، لشيدوا منازلَ بها، ذكرتُ ذلك لأن كتبه سارت بها الرُّكبان. صرف الوردي جُل ما استلمه لتأسيس مكتبة يُنتظر أنها ستكون جزءاً مِن متحفه الموعود: «لا أملك مِن حِطام الدُّنيا سوى مكتبتي، وداري التي أسكنها» (المطبعيّ، عليّ الوردي يدافع عن نفسه). استباح أدعياء التخويل الكتب، أمّا الدَّار فمرهونةٌ عند العشيرة، لأنها «أصدق أنباءً مِن الكتبِ».

كان للورديّ فضلُه في عضد المدنيّة العراقيّة، فكيف يلوذ بعشيرةٍ أو مذهبٍ، فلم يعترف إلا بالدَّولة، ولذا ظلّ لقبه «الوّرديّ»، مِن دكان لبيع «ماء الورد». احتفظ العراقيون بألقاب المهن، التي يشتركون بها، على مدى العصور، ومنها بيع الورد ومائه، فقديماً عُرف قاضي القضاة عليّ بن محمَّد بالماورديّ (ت: 450هج)، عهدي البويهيّة والسُّلجوقيَّة، صاحب «الأحكام السّلطانيَّة»، لكن آل الوردي رفعوا الماء وأبقوا الورد.

جاء في المناشدة: «مثلما تعرفون أن عليّ الورديّ يدعو إلى المدنيَّة، إلى التّحضر، إلى الإيمان والعمل بالقوانين، فنحن طلعنا مثله، ما عندنا عشيرة» (فيديو المناشدة). جاءت المناشدة بعد تهديد عشيرة السّاكن في منزلهم، منذ أربعين سنةً، ويرفض تطبيق قانون الإخلاء، قالت العشيرة: «هذا البيت لا نُخليه، لو قاتل، لو مقتول».

لا يريد آل الوردي تبديل العشيرة أو المذهب المدنيَّة التي سهر والدهم على دعمها، في مؤلفاته وحواراته. عندما تضعف الدّولة تستشرس الفرعيات، ويبدو أنَّ الذين نُهبت أرضهم بالجادريّة مؤخراً، تعاملوا مع واقع الحال، فلجأوا إلى المرجعيات، وبذا قدموها بديلاً عن الدَّولة. هذا ما لا يستوعبه ورثة الورديّ، وكتب والدهم وأفكاره ما زالت مفتوحة أمامهم، ناطقةً. يُخيل لي أنَّ العشائريَّة، بعد تمكنها، أرادت الثّأر، فالوَرديّ لم يدخر انتقادها، «دراسة في طبيعة المجتمع العِراقيّ» (1965) «تكوين الشَّخصية في الرِّيف»، انتقدها عندما كان «قانون العشائر» سارياً.

كان رئيس العشيرة يحكم عشيرته، والعراقي، في ظل القانون المذكور، استغنى عن الدّولة، لأنّها لا تتجاوز العشيرة، ومع ذلك كان للدولة حضورها آنذاك، فتمكنت حكومات إضعاف العشائريَّة، ثم عادت ودعمتها لحاجة، فظهر مصطلح «شيوخ التِّسعينيات»، غير الأُصلاء. فإذا كانت العشيرة تلاحظ الدّولة وتحذرها، فالآن صارت تقول: أنا الدَّولة، الدَّولة أنا، وكل حزب يريد العشيرة رافعةً له، فماذا عن عشائر «الإسناد» مثلاً؟

مازالت أسرة الورديّ، مع جبروت العشائريَّة وأسلحتها الثَّقيلة، تحلم بعون دولة، التي تحولت إلى فرع والفرعيات إلى دولة، فعند مَن ناشدتهم لا قيمة لمنزل يُراد له أن يفتتح مُتحفاً لتخليد عالم اجتماع، مقابل تهديد العشيرة «لو قاتل لو مقتول»، ونحن في زمن الحقّ ما قاله أبي تمام (ت: 231هج): «السَّيْفُ أَصْدَقُ أَنْبَاءً مِنَ الْكُتُبِ/ في حدِّهِ الحدُّ بين الجدِ واللَّعبِ» (الصُّوليّ، أدب الكاتب). فماذا تعني كتب الوردي مقابل سيف العشيرة، وفي ظل احتجاب الدَّولة؟!

نعم، قامت الدّاخليّة (يوم 28 أغسطس 2023) بإخلاء البيت، ويُنتظر تسليمه لأسرة آل الورديّ، لكن المُغتصَبات مِن البيوت لا تُعد ولا تُحصى ببغداد، ولو كان الوضع سليماً، هل يحتاج إخراج مستأجر إلى أرتال عسكريّة! هذا، وعندما يتكاثر المتنفذون تبرز للظُلمِ رؤوسٌ، ولأبي الطّيب (اغتيل: 354هج): «ظُلمٌ لذا اليوم وَصفٌ قبل رؤيته/ لا يصْدق الوَصْف حتّى يصدقُ النّظرُ»(العُرف الطّيب في شرح ديوان أبي الطَّيب). نعم، كان ظلماً مسموعاً ومرئياً، أنّ العشيرة والميليشيا اليوم أَصْدَقُ أَنْبَاءً.