فلسطين، اسرائيل.. مكر السياسة وخدعة التاريخ

اذا استمرت شعوب المنطقة في التنقيب في اصولها فستنتهي باحثة في كهوف. هذا ما يجعلنا ونحن ننقب، أن نعثر على وحوش مثل داعش.

بثت قناة الراي الكويتية، مؤخرا، ندوة تحدث فيها احدهم وقال ما خلاصته: لا يوجد شيء في التاريخ اسمه فلسطين، بل يوجد اسرائيل، وان فلسطين موجودة في اذهان الحالمين فقط. لا اعرف متى بثت الندوة ولم اطلع عليها كاملة، بل اطلعت على مقاطع منها، تضمنت الطرح اعلاه، ضمن برنامج اخر وفي فضائية اخرى، لكني لم اجد بي حاجة الى مشاهدة الندوة كاملة، لان مثل هذا الراي ليس جديدا، وانما قاله اكثر من واحد، لاسيما الذين يخلطون الامور، بقصد او من دون قصد، في قراءتهم للامور.

ما يؤسف له، ان قضية فلسطين تعرضت الى اساءات ومحاولات تفريغها من حمولتها الانسانية والسياسية الصحيحة، لصالح مشاريع وافكار تضر بحق الشعب الفلسطيني ومصالحه، وقد جاء هذا نتيجة لقراءة جهوية للتاريخ، وربما عن غفلة او حماسة. وكان من نتائجه، ان القضية برمتها صارت تسوق الى العالم بطريقة خاطئة، بعد ان تم تصويرها على انها صراع ديني، محوره القدس ومرجعيتها التاريخية المقدسة، المتنازع عليها بين المسلمين واليهود.

في البدء، لا بد من القول، ان اليهود جزء من النسيج الثقافي والاجتماعي للمنطقة، وهم بالضرورة جزء من تاريخها الذي شهد صراعات مختلفة، دينية وسياسية، وان شعوب المنطقة بشكل عام، تمثل مزيجا من اعراق مختلفة سكنتها في مراحل تاريخية متفاوتة، تصاهرت عبر فترات زمنية طويلة، وانضجت واقعا ثقافيا جديدا ومتجددا، تعددت فيه المسميات، من دون ان تنسلخ تماما عن جذورها الثقافية الاولى، او تتخلى تماما عن تلك الجذور التي تتغنى بها هذه الشعوب، من خلال استحضارها عمقها الحضاري الذي تتبدى الكثير من ثمالاته في لهجاتها او لغاتها القديمة، المبثوثة في العربية، لغة التفاهم اليوم بين البلدان العربية، الى جانب اللغات القديمة الاخرى كالسريانية والعبرانية، التي مازالت لغة التواصل والتفاهم بين فئات غير قليلة من ابناء هذه المنطقة، ممن لم يتخلوا عن دياناتهم، بعد مجيء الاسلام، ونشره العربية بين اقوامها، بصفتها لغة القران التي باتت اللغة الرسمية للدولة، بينما بقيت لغات حضارية اخرى محتفظة ايضا بقوتها وقواعدها، كالفارسية والتركية وغيرها.

ارض فلسطين لم يكن حالها يختلف كثيرا عن بقية اجزاء المنطقة، اذ شهدت صراعات قديمة، سبقت الاسلام، وقامت فيها امارات ودول، منها عبرانية، وتعرضت كغيرها الى عواصف التاريخ وحركته المستمرة. وقد جاء ذلك في سياق التنافس بين الامبراطوريات الكبيرة الآفلة، والتي انهارت، كالحضارة الفرعونية في مصر، والبابلية والسومرية والاشورية في بلاد الرافدين، التي قام بعضها على حطام من سبقها، أي تبدلت الدول وليس الشعوب التي تغيرت ثقافتها وفقا للمرحلة الجديدة او بقوة الدولة الجديدة، وهو ما كان يشهده العالم كله وليس منطقتنا فقط.

اذن، فمحاولة تقعيد الواقع السياسي الان على تلك الاسس التي تقلبت فيها الدول والحضارات باناسها، مسالة عفا عليها الزمن، وتعد امرا لا يتقبله المنطق والعقل، لان الحياة في سيرورة وصيرورة مستمرتين، وان الواقع الثقافي للامم والشعوب يتحول دائما، لكن من خلال دورات زمنية طويلة، وان اللغة التي نتحدثها اليوم، قد لا تكون كذلك بعد مئات السنين. الشعب الفلسطيني، كبقية الشعوب، عاش على ارضه، سواء تحت حكم دولة عبرانية (اسرائيلية) حكمت مدة من الزمن، او دولة (كنعانية) او رومانية او تركية. ما يعني ان العبرانيين (الاسرائيليين) والكنعانيين (الفلسطينيين) عاشا على ارضهما التي تغيرت اديانها وثقافاتها، وفقا لحراك كل مرحلة، وان احدا لا يستطيع ان ينكر حق اليهود العبرانيين في العيش، سواء في ارض فلسطين التي هي ارض اجدادهم او غيرها من الاراضي التي سكنوها او توزعوا بينها نتيجة لتلك الصراعات القديمة، مثلما لا ينكر حق الفلسطينيين المسلمين، ممن دخلوا هذا الدين في عهد الخلافة الراشدية الثاني، بينما بقي اغلب اليهود والمسيحيين على دينهم، ودخل بعضهم الاسلام واندمج في ثقافته، وهذه حقائق معروفة.

من يطلع على خارطة اوروبا، مثلا، خلال القرون القريبة الماضية، سيجد ان مسميات الدول الحالية، لا وجود لاغلبها، وقتذاك، كونها خضعت لواقع سياسي، تغير لاحقا، واستقر على شكله الحالي، لاسيما بعد الحربين العالميتين، وقد يتغير بعد قرن واكثر الى شكل اخر، وهكذا معظم بقاع العالم.

مشكلة الشعب الفلسطيني اليوم، ليست مع اليهود او الاسرائيليين، بل مع الصهيونية التي اقامت دولة على اسس عرقية ودينية، وطردت اناس يسكنون ارضهم منذ الاف السنين من مدنهم وقراهم، لانهم مختلفون ثقافيا، وترفض عودتهم اليها منذ سبعة عقود، خلافا لقرارات مجلس الامن والامم المتحدة، وجاءت بيهود ليستوطنوا ارضهم، وهذا هو جوهر المشكلة، التي لايمكن لعصرنا وثقافته الجديدة هضمها، فالامم المتحدة تدعو في تناولها مشاكل العالم الى تجنب الدخول في متاهة التاريخ، لان عالم القرون القديمة لا ينسجم قيميا وانسانيا مع عالم اليوم، لكن للاسف ان البعض ممن يدعون التحضر، يبررون الاحتلال وتشريد الفلسطينيين بحجة ان هذه الارض، كانت سابقا لليهود او لبني اسرائيل.

ان يتعايش اليهودي مع المسيحي والمسلم في دولة مدنية واحدة تحفظ للجميع حقوقهم الثقافية والدينية، وتقاد من قبلهم جميعا بطريقة ديمقراطية، وفقا لمفاهيم العصر الحديث، فهذا يعني اننا تجاوزنا المشكلة، وحلّت قضايا جميع اهل الاديان الثلاثة وغيرهم، وان بقينا ننقب في التاريخ عن جذور واعراق، لننتصر فيها لهذا الطرف على حساب الطرف الاخر، فهذا يعني اننا مازلنا نعيش في كهوف التاريخ التي انجبت لنا وحوش هذا العصر من دواعش وقاعدة وغيرهم. وهو ما لا يريد البعض ممن يدعون التحضر ان يفهموه.