قمة غلاسكو لبنانية

العزلة اللبنانية مزدوجة: عزلة دولة لبنان عن شعوب العالم، وعزلة شعب لبنان عن دولته.
لبنان يحتاج لاستضافة "قمة غلاسكو" خاصة به لوقف الانبعاث الحراري في أجوائه السياسية
مشكلة العالم مع لبنان هي ذاتها مشكلة اللبنانيين مع حزب الله
حزب الله باق بعد الحكومة وسيقوى أكثر بدون وجود حكومة

كلنا يعرف أن دولة لبنان ما بلغت مرحلة انهيار شامل كهذه التي بلغتها في ظل هذا العهد، عهد حزب الله. وكلنا يعرف أن دولة لبنان ما مرة ورطت اللبنانيين بقطيعة ديبلوماسية وسياسية واقتصادية مع دول الخليج كهذه التي ورطهم بها هذا العهد. واليوم زادت معرفتنا ـــ فالثقافة نبع لا ينضب ـــ بأن دولة لبنان لم تـنزو في عزلة تامة كهذه التي انتبذه فيها هذا العهد. الحقيقة ليست تجنيا، بل جرس إنذار للالتحاق بالحق.

نفهم أن تطلب دولة لبنان وساطة أميركا مع دولة إسرائيل، العدو، لترسيم الحدود وتحديد حصة لبنان في المربعات النفطية. لكنه مستهجن أن تستجدي دولة لبنان شفاعة فرنسية وأميركية وقطرية وعمانية في أزمتها مع السعودية ودول الخليج العربي، الشقيقة والصديقة، وهي من كانت تتوسط لنا مع الآخرين لحل أزمات لبنان ووقف حروبه ومساعدته ماليا واقتصاديا. وغريب بالمقابل، أن الدولتين الوحيدتين اللتين لا يحتاج لبنان إلى وسيط معهما هما: سوريا وإيران، أي الدولتين اللتين بسبب تحالف الحكم اللبناني الحالي معهما استراتيجيا، خسرنا أصدقاءنا التاريخيين ووضعنا في سجن انفرادي.

العزلة اللبنانية مزدوجة: عزلة دولة لبنان عن شعوب العالم، وعزلة شعب لبنان عن دولته. وأصلا إن مشكلة العالم مع لبنان هي ذاتها مشكلة اللبنانيين مع حزب الله. وقبل أن تسحب دول الخليج الأربع سفراءها من لبنان، سبقها الشعب اللبناني وسحب ثقته من دولته وأجلى أجياله عنها وقطع علاقاته معها. وكانت انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 إحدى مظاهر هذه القطيعة.

من هنا أن صرخة السعودية تلتقي متأخرة مع صرخة اللبنانيين وليس العكس. سبقنا السعودية بسنوات في الدعوة إلى تحرير قرار الشرعية من هيمنة حزب الله. فقبل أن يختار العهد بين السعودية وحزب الله، كان واجبه أن يختار بين الشعب اللبناني وحزب الله، ففضل الحزب. وإذا دولة لبنان لم تستمع اليوم إلى الصرخة السعودية، فالعرب والعالم لم يستمعوا بالأمس إلى صرخة اللبنانيين وظنوها ذبذبات صوتية أو دلعا على حبيب. ما هب أحد إلى مساعدة اللبنانيين وإخراجهم من مأزقهم مع أن جزءا كبيرا من مشاكل لبنان ناتج عن الصراعات العربية والإقليمية والدولية. ليست جميع مشاكلنا من نبع العسل أو نبع الباروك.

منذ ثلاثين سنة بارك العرب والعالم تسليم لبنان إلى سوريا التي أودعته، رغما عنها وعنا، إلى إيران. لقد سكتوا على الباطل، وتغاضوا عنه، وبعضهم كان عراب التسويات المشبوهة التي أدت إلى الحالة التي ابتلينا بها. واليوم أيضا، نرى العرب يعودون تدريجا إلى سوريا بذريعة استعادتها من الحضن الإيراني إلى الحضن العربي، ويخرجون من لبنان ويبقونه في الحضن الإيراني. واليوم كذلك، يطبعون علاقاتهم مع إسرائيل التي دفنت الحق الفلسطيني إلى غير رجعة، ويقطعون، أو يقننون، علاقاتهم بلبنان الذي لا يزال يتحمل عبء اللاجئين الفلسطينيين ويدافع عن القضية الفلسطينية.

حق دول الخليج، وفي طليعتها السعودية، أن تغضب من دولة لبنان، وواجب دولة لبنان أن تنزع فتيل الغضب بإقالة وزير متهم أو باستقالة حكومة يفتي بمصيرها حزب الله. هذا التدبير هو عقاب ضروري، لكنه ليس حلا نهائيا. حزب الله باق بعد الحكومة وسيقوى أكثر بدون وجود حكومة. لذا، حبذا لو نتفق مع دول الخليج والمجتمع الدولي على الحل مثلما نحن متفقون معهم على المشكلة. فإذا كان حزب الله مشكلة لبنانية، فحلها ليس لبنانيا. وأكبر دليل هو مجموعة القرارات الدولية بهذا الشأن من 1559 إلى 1701، ومجموعة القرارات الصادرة عن القمم العربية بخصوص حزب الله تحديدا. "الحل اللبناني" الوحيد لحزب الله هو مواجهته عسكريا، فهل هذا حل أم هو حرب أهلية؟ نحن مستعدون لمواجهة حزب الله سياسيا إلى أبعد الحدود، لكننا لسنا بوارد مواجهته عسكريا إلا إذا هو فرض علينا المواجهة، فنقاوم.

قد يكون لبنان قصر في تنفيذ القرارات الدولية لأن دولته أسيرة، بل متواطئة مع حزب الله، لكن تقصير الأمم المتحدة والدول الكبرى يفوق التقصير اللبناني أضعافا. لماذا لم تتجاسر القوات الدولية على تنفيذ مضمون القرار 1701؟ لماذا لم تنزع سلاح حزب الله ـــ ولديها كامل الصلاحية ــــ في منطقة انتشارها، ولم تمنع وجوده جنوبي الليطاني؟ ما هي الآلية التي لحظها مجلس الأمن الدولي لتنفيذ القرار 1559 الداعي إلى سحب سلاح جميع الميليشيات وفي طليعتها سلاح حزب الله؟ أبعد من ذلك، لماذا ـــ وهذا سؤال وليس تمنيا ـــ لم تدمر إسرائيل آلة حزب الله العسكرية سنة 2006 مثلما دمرت الآلة العسكرية الفلسطينية سنة 1982 إذا كانت تريد فعلا إنهاء حالة حزب الله؟ إن أقصى ما وصل لبنان إليه مع حزب الله هو "إعلان بعبدا" الذي لحظ وضع استراتيجية دفاعية وتحييد لبنان، لكن سرعان ما انقلب حزب الله على الإعلان.

تاريخيا، قديما وحديثا، جميع عمليات نزع السلاح غير الشرعي في لبنان حصلت بواسطة دولة أو مجموعة دول أجنبية آزرها الجيش اللبناني. فتركيبة لبنان المركزية تعقد دور الجيش، المتعدد التكوين، في نزع أسلحة الميليشيات الطائفية التكوين. من هنا إن الأمم المتحدة مدعوة بإلحاح إلى عقد مؤتمر دولي خاص بلبنان يعلن حياد لبنان ويصدر قرارا جديدا ذا مفعول تنفيذي فوري بخصوص انتشار السلاح. وإذا كان العالم يحتاج، بعد، إلى دليل على استحالة الحل اللبناني وحتمية الحل الدولي، فقد جاءت الأزمة مع السعودية ودول الخليج لتعطيه دليلا إضافيا.

بانتظار الحل الدولي، تستطيع الدولة اللبنانية، إذا حزمت أمرها، أن تقوم بما يلي: 1) توجيه رئيس الجمهورية رسالة يبلغ فيها الشعب اللبناني والعالم العربي والمجتمع الدولي، خروج لبنان من جميع المحاور والتزام الحياد حيال جميع صراعات المنطقة. 2) تأكيد وجود إرادة سياسية بمعالجة جميع مواضيع الخلاف مع دول الخليج. 3) إغلاق كل المعابر غير الشرعية بين لبنان وسوريا، ومراقبة المعابر الشرعية لمنع التهريب. 3) محاكمة جدية لعصابات التهريب المعروفة إلى السعودية وغيرها. خلاف ذلك، جميع الجهود الاستثنائية التي بذلها رئيس الحكومة مشكورا في مؤتمر "غلاسكو للمناخ"، تبقى في إطار العلاقات العامة.

لبنان أيضا يحتاج أن تنعقد في ربوعه "قمة غلاسكو" خاصة به لوقف الانبعاث الحراري في أجوائه السياسية، ولخفض حرارة الأزمات المحتبسة أو قيد التفجير. نحن في درجة حرارية مرتفعة قد تكون مؤشرا إلى حل ما.