كورونا يعيد التاج على رأس سيدة الحكمة

العالم يعول على الفلاسفة لقراءة ما يحدث في دورة الذعر والاهمال التي نشرها وباء كورونا.
الجميع يشعر بالحاجة إلى الفلاسفة في دورة الذعر والإهمال ليعيدوا تعريف علاقة الإنسان بالحياة في عالم معقّد

على مدار عقود ثمة اتفاق ثقافي على غياب الفلسفة من حياة البشرية، ولا أحد يبحث عن مسوّغ أو تبرير هذا الاتفاق الجمعي في مدونة المعرفة. فإذا كانت العقود الأولى من القرن العشرين لامعة بالتنظيرات الفلسفية فإن الخفوت أصاب الأفكار والجدل الفلسفي في العقود الأخيرة. وهذا لا يعني أن الجامعات لم تعد تدرّس الفلسفة وتوقّفت عن منح الشهادات العليا فيها، لكن الفلسفة لم تعد تثير اهتمام الجمهور ووسائل الإعلام، وغاب الجدل المحتدم حول مشاهيرها إن وجدوا أصلا.

وقبل سنوات قليلة شعرت صحيفة ليبراسيون الفرنسية بصدمة الفلسفة، فاقترحت يوما للفلسفة، لم يكن في الأمر مغامرة بقدر إعادة الهيبة الإعلامية للفلسفة التي تضاءلت لحساب الثقافة الواطئة في وسائل الإعلام. فمنحت الصحيفة كل العاملين بمن فيهم رئيس التحرير، إجازة ليوم واحد، ودعت بوقار الحكمة اليونانية فلاسفة من الجامعات لتحرير الصحيفة في ذلك اليوم.

كان الهدف إعادة قراءة أوضاع العالم في قصص صحافية، ومحاولة حث الجمهور على الاهتمام بالفلسفة إزاء السطحية التي غلفت حياتنا المعاصرة. فالفلسفة ليست من الماضي، بل يمكن أن توفر حلا لمعضلات العالم السياسية والاقتصادية، ويمكن لها أن تلعب دورا في إعادة المجتمع إلى اتساقه المفقود.

مرت مبادرة ليبراسيون من دون ضجيج فلسفي، وبعد سنوات شعر العالم بصدمة عدم فهم نفسه، ولم يكن أمامه غير أن يعيد المجد لحب الحكمة، على الأقل لمعرفة ما يجري له بعد أن ترك فايروس كورونا كدمات على وجهه.

الحاجة إلى الفلسفة مجددا

اليوم الجميع يشعر بالحاجة إلى الفلاسفة في دورة الذعر والإهمال ليعيدوا تعريف علاقة الإنسان بالحياة في عالم معقد، نحن محاطون بأدلة متناقضة وآراء مختلفة وحكومات عاجزة واستراتيجيات فاشلة بعد أن انقض علينا الوباء، وهذا ما دفع رجل الأعمال الشهير جورج سوروس إلى تأكيد أن كل شيء سيكون عرضة للنقاش والصراع، معبرا عن اعتقاده  بأن لا أحد يعرف كيف ستتطور الرأسمالية… لم يبق لنا إذا غير الفلاسفة ليديروا منصة الجدل والتوقع ويعرفوننا بما سيحدث!

لقد قابل الصحافي في فايننشيال تايمز تيم هارفورد في فبراير الماضي ناتالي ماكديرموت عالمة الأوبئة من “كينجز كوليج” في لندن، التي قالت إنه من المحتمل أن يتبين أنه من المستحيل احتواء فايروس كورونا الجديد، وفي هذه الحالة هناك احتمال كبير بأنه قد يصيب أكثر من نصف سكان العالم. كان أفضل تخمين منها لمعدل الوفيات في ذلك الوقت أقل بقليل من 1 في المئة.

أومأ هارفورد برأسه وصدقها وأجرى الحسابات في رأسه، ربما سيكون عدد الضحايا خمسين مليون قتيل بالفايروس، لكنه أيضا ذهب إلى عمله بشكل طبيعي ولم يبع أسهمه ولم يشتر كمامات، ولم يخزن حتى المعكرونة والفاصوليا والقهوة!

اليوم تيم يبحث في كلام الفلاسفة القديم، أكثر من تصريحات الأطباء وخبراء الأوبئة والمحللين السياسيين، من أجل أن يكتب مقالات بمحتوى متميز عما أصاب نفوسنا جراء انتشار الوباء، كما يحاول استنطاق الفلاسفة المعاصرين من أجل التوصل إلى فكرة يقنع بها القراء.

أين هم الفلاسفة الجدد، هل اكتفت الدول بركنهم في قاعات المحاضرات بالجامعات وتخصيص مساحات محدودة لأفكارهم في المجلات الفصلية، هل يوجد فلاسفة في مراكز البحوث الإستراتيجية، هل بين طواقم رؤساء الدول مستشارون في شؤون الفلسفة.

حيال كل ذلك فإن فايروس كورونا أعاد المجد لحب الحكمة ووضع التاج على رأس الفلسفة ثانية بعد أن انتزعته منها الثقافة السائدة، هكذا يعيد انتشار الوباء مجد الفلسفة من جديد، والعالم ينصت إلى ما يقوله الفلاسفة اليوم أكثر من أي منظر آخر في العلوم والتكنولوجيا والسياسة.

صارت الأسئلة الفلسفية تتكرر بصيغ أرسطو وكانت ونيتشه في التقارير الإخبارية، عن جوانب الصواب والخطأ في التعامل مع الأزمة الحالية؟ ما الذي يمكن أن يتوقعه الأفراد من المجتمع، وما الذي يمكن للمجتمع أن يتوقعه منهم؟ هل يجب على الآخرين أن يضحوا من أجلي، وهل يجب علي أن أضحي من أجلهم؟ هل الأمر مجرد وضع حدود اقتصادية لمكافحة مرض قاتل؟

تتأثر الحسابات والتحليلات المتصاعدة والمستمرة منذ أشهر بأخلاقيات العلوم والطب أيضا، ويجب الأخذ في الاعتبار القضايا الأخلاقية التي تواجه العلماء والأطباء الذين يبذلون قصارى جهدهم للتغلب على هذه الجائحة. ففي تغريدة له على تويتر قال فرانسوا بالوكس، مدير المعهد الجيني في جامعة كوليدج لندن، إن علم وبائيات الأمراض المعدية يتعلق بتقليص عدد الوفيات، وذلك في ضوء الموارد المتاحة، إلا “أنها لعبة أرقام، وليست لعبة جميلة أو مريحة دوما”.

يستعيد جوزيف دانا كبير محرري “emerge85” بلاغة الفلاسفة وهو يقرأ ما يحدث للبشرية تحت وطأة الوباء بالقول “إن الحكومات والشركات الخاصة وحتى المحاكم في جميع أنحاء العالم دائما ما تكيل حياة الإنسان بالقيمة المادية. وبينما تسلط أزمة فايروس كورونا الضوء على هذا النقاش الملح، فيبدو أن الفايروس لن يشكل أي تغيير حقيقي على كيفية فهمنا لهذه المعضلة الأخلاقية”.

كذلك فعلت وكالة بلومبرج للأنباء في تحليل لها، بالتأكيد على أن الوباء يجبر الجميع على مواجهة أسئلة عميقة عن الوجود البشري، وهي أسئلة يصل عمقها إلى درجة أنه قد تمت الإجابة عليها من قبل عبر طرق كثيرة ومتنوعة، على أيدي أهم فلاسفة شهدهم الزمان. إنه اختبار لمواقف البشر جميعا.

لنتأمل إجابة راسل مور، رئيس لجنة الأخلاق والحريات الدينية في “مجمع ساذرن بابتيست” على مثل تلك الأسئلة في مقال منشور بصحيفة نيويورك تايمز، وهو يعبر عن  أمله في ألا تكون الدروس التي سوف نستفيد منها من خلال تجربتنا مع فايروس كورونا متعلقة بالطعام، أو تجنب انتشار الجراثيم، ولكن عن كيفية تعاملنا مع الفئة الأكثر ضعفا بيننا. ويقول راسل مور: إن الوباء ليس الوقت الذي نغمض فيه أعيننا عن قدسية الحياة البشرية.

هراري رؤيوي عما ينتظرنا
هراري رؤيوي عما ينتظرنا

سبق وأن أنتجت الفلسفات طرقا مختلفة للتعامل مع الأوبئة. ففي ظل النفعية “وهي نظرية أخلاقية تنص على أن أفضل سلوك أو تصرف هو ذلك الذي يحقق الزيادة القصوى من المنفعة” التي ترتبط أغلب نظرياتها بالفيلسوف البريطاني جون ستيوارت ميل، الذي عاش في القرن التاسع عشر، لذلك يستعيد راسل مور تلك الحكمة الأخلاقية في رد فلسفي مبسط عن ضرورة أن يتم توجيه الحكام إلى السعادة الكاملة، أو “النفعية” بالنسبة لجميع الناس، وأن يستهدفوا ضمان “أكبر قدر من الخير لأكبر عدد من الناس”.

هذا الكلام يجد أصداء في تعليق عالم الاجتماع الإسرائيلي المعاصر يوفال نوح هراري الذي أكد أن “تفشي الوباء والأزمة الاقتصادية الناجمة عنه هي مشاكل عالمية تستلزم تعاونا دوليا”.

وفي مقال في صحيفة فايننشيال تايمز أدان هراري “الشلل الجماعي” للأسرة الدولية في مرحلة حاسمة تستلزم “تضامنا عالميا” بدلا من “الانقسام” الذي سيشكل “خطرا” على البشرية.

وكتب هراري الذي سبق وأن وصف حياة البشرية بعرض عرائس عاطفي أن “بلدانا كاملة تُستخدم حقل تجارب اجتماعية على نطاق واسع، وأن العالم سيواجه خيارا جوهريا بين المراقبة الشمولية والتعويل على حس المسؤولية لدى المواطنين”.

وقال “إذا لم نحترس، فإن الوباء سيشكل نقطة انعطاف في تاريخ المراقبة. ليس لأنه قد يجعل استخدام أدوات المراقبة الجماعية أمرا طبيعيا في دول كانت ترفضها حتى الآن فحسب، بل خصوصا لأنه سيشكل تحولا ملفتا نحو مراقبة تحت الجلد”.

وإذا كان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان عبر دون وجل عن خشيته ألا يشبه عالم ما بعد الوباء تماما عالم ما قبله، لكن بمنحى أسوأ. فإن هراري نبه البشر إلى مشاهدة  الفجوات التي يعاني منها النظام العالمي منذ سنوات. وبدت أكثر اتساعا مع انتشار الوباء.

وقال “حين كنتم تنقرون بأصبعكم على رابط على هاتفكم الذكي، كانت الحكومة تريد أن تعرف ما هو هذا الرابط. أما الآن، فتريد الحكومة معرفة درجة حرارة إصبعكم وضغط الدم تحت جلدكم”.

بينما يقول زكي العيدي الأستاذ في كلية العلوم السياسية الفرنسية “نحن في حقبة عودة النهج السيادي، وهذه الأزمة ستحض حتما هذه الدول على المضي أبعد في النهج السيادي”.

التفلسف طريق إلى اليقين

وكالة الصحافة الفرنسية غادرت مواصفاتها الإخبارية التقليدية وهي تعيد إطلاق الأسئلة الفلسفية عن الوباء: ما الذي سينبثق عن هذا التفكك؟ هل تكون النزعة السيادية؛ التعددية بشكل جديد أو الليبرالية والشمولية الرقمية؟

تجيب الباحثة ريجين بيرون مؤلفة كتاب بعنوان “تاريخ التعددية: وهم القرن الأميركي من 1918 إلى يومنا” إن “النظرة المتفائلة تقضي بأن نغتنم الوضع لإعادة بناء التعددية على أسس جديدة بحيث تكون مطابقة أكثر لزمننا” مضيفة في تعليق نقلته وكالة الصحافة الفرنسية “المخرج المثالي هو أن تحل كيانات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي محلّ منظمات أكبر”.

بينما تحذر مارجريت هيفرنان، مؤلفة كتاب منطقة مجهولة Uncharted من أن حالات الإخفاق العقلي نفسها التي تعمينا عن مخاطر معينة، يمكن أن تفعل الشيء نفسه لقادتنا.

تقول “نحن نجتمع مع أشخاص مثلنا، وإذا لم يشعروا بالانزعاج، فلن نشعر بالانزعاج”. وتلك أشبه بمجس اختبار ننتظر نتائجه بعد أن تعود الحياة إلى طبيعتها، إن كانت حقا ستستعيد طبيعتها.