لا أحد يحتكر الحقيقة

هناك مفهوم مختلف للحقيقة التي تحولت إلى حقائق مرتبطة بطريقة اهتمام المستخدمين على مواقع التواصل التي لن يستيقظ ضميرها.
ليس التغريد أو التدوين معادلا لصناعة الأفكار في عمل الصحافي. جوهر الصحافة لا يجعله يهتم بملفه الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي والتعويل على الإعجاب وعدد المتابعين.

سألت صديقي السعودي الذي يحظى بأكثر من مليوني متابع على تويتر، لو قدر له أن عمل حسابه بمقابل مالي، ماذا سيتوقع؟ أجابني جادا: سأفقد ستة أصفار من أمام رقم متابعي على تويتر.

هو ليس متشائما بهذا القدر، بقدر ما يقرأ طبيعة التفاعل في السوشيال ميديا العربية. إنها تكشف عن الرأي العام وفق مفهوم الثقافة الواطئة التي تعد جزءا يعول عليه في مقاييس دراسة الرأي العام، مقابل الثقافة العالية.

كان سؤالي محرضا لصديقي المدون والكاتب الذي يحظى بشهرة عالية في وسائل الإعلام في بلده وخارجه، ففكر بالمردود المالي وفتح له حسابا على يوتيوب ينقل أفكاره، وفي أغلبها عميقة ونيرة كما أرى، في فيديوهات مصورة، على أمل إحداث اختراق ما يجلب له المال.

لا أروع من الأفكار التي تجلب المال السهل. ذلك ما يفعله العالم الرقمي اليوم. المطربون لم يعودوا يفكرون بالأموال التي يجنونها من الحفلات الغنائية، وإنما مما يحصلون عليه مقابل عدد المشاهدات على يوتيوب. ذلك ما يفعله الطهاة، العارضات… مشاهير عالم التواصل.

فلا أحد بإمكانه الزعم احتكار الحقيقة في عالم التواصل الاجتماعي الذي لن يصحو ضميره. هناك مفهوم مختلف للحقيقة التي تحولت إلى حقائق مرتبطة بطريقة اهتمام المستخدمين. أن تتحول تدوينة قصيرة أو مقطع فيديو إلى موضع اهتمام خمسة ملايين متابع، هذا يعني أنها أضحت حقيقة بغض النظر عن صحتها.

لازالت قصة الشاب الأميركي لورنزو ميشيل (21 عاما) تحظى بمتابعة مثيرة من وسائل الإعلام لكونه حصل على خمسين مليون مشاهدة على مقطع فيديو موسيقي وضعه على حسابه على مواقع التواصل. كان مفرطا في الطموح عندما حصل للمرة الأولى قبل سنوات على سبعين دولارا، وعلينا تخيل الثروة التي ستدر عليه بعد “الخمسين مليون مشاهدة” ذلك ما يمكن أن نسميه المال السهل!

لكن ذلك المفهوم المالي لا يمكن أن ينطبق على الكاتب والمراسل الصحافي، فليس التغريد أو التدوين معادلا لصناعة الأفكار في عمله. جوهر الصحافة لا يجعله يهتم بملفه الشخصي على وسائل التواصل الاجتماعي والتعويل على الإعجاب وعدد المتابعين. هناك ما هو أهم ينتظره الجمهور من الصحافي. ولكي يبقى مخلصا لجوهر الصحافة يجب أن يكون محصنا ضد عدد المتابعين على حسابه الشخصي.

اليوم لدينا قصة صحافية تعبر عن مفهوم عدد المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي وتأثيره على صناعة الرأي. أبطالها مئة ألف مستخدم غادروا حساب مغنية البوب الأميركية بيلي إيليش على إنستغرام.

تلك قضية تهم بالدرجة الأساس شركة إنستغرام وعلاقتها بالمعلنين، مثلما تؤثر بطريقة ما على المغنية إيليش. وتعيد فهم العلاقة مع المتابعين على حسابها، وأرى أنها مختلفة عن العلاقة مع جمهورها. تلك قضية ملتبسة في تداخلها. أن تكون معجبا بفنان ما، لا يعني أنك بالضرورة ممن لا يفرطون بكل ما ينشره على حسابه الشخصي على مواقع التواصل. علاقتنا بما نحب من نتاج الفنانين ليست بالضرورة تحمل نفس التعبير عن كوننا من بين الملايين من المتابعين لهم على مواقع التواصل.

وفقدان إيليش لمئة ألف متابع يمنحنا صورة تساعدنا على تفسير تلك العلاقة الفنية والرقمية المتداخلة.

جمهور إيليش يعرف أنها مولعة بالملابس الفضفاضة، لكن هل هذا الأمر متعلق أيضا بغنائها؟ لا أرى ذلك أبدا، فعشاق نجمة البوب الموسيقية يضعون جمالها وملابسها بدرجة متأخرة عن غنائها. إلا أن غالبية متابعيها على إنستغرام لديهم أمور أخرى تثير اهتمامهم، من بينها ملابسها!

هكذا فقدت هذه المطربة الشابة مئة ألف متابع في شهر سبتمبر الماضي لمجرد نشر صورة لها على إنستغرام تظهرها بهيئة مختلفة عما كانت عليه في الملابس الفضفاضة.

ما الذي كان يخشى هؤلاء المتابعون؟ لا شيء متعلق بكلمات وموسيقى أغاني إيليش!

ترى مغنية البوب الشابة أنهم غادروا لأن هناك شيئا ما في الصورة كانوا يخشون منه. يبدو أن بعض الناس ليسوا على استعداد لرؤيتها تكبر، مع أن التقدم في العمر لم يؤد مثلا إلى تراجع أدائها وخياراتها الموسيقية.

مهما يكن من أمر، فإن لا أحد يمكن أن يكون لديه رأي يعتد به لأنه لم ير ما تحت ملابس هذه المطربة الجميلة أولا! كما أن الملابس لا يمكن أن تكشف جوهر الإنسان كما لا تكون عاملا مساعدا في الارتقاء بالقيمة الإبداعية التي يتوق لها الفنان. غير أن مئة ألف متابع كان لهم رأي مختلف كليا! ذلك مؤشر واضح لخبراء دراسة الرأي العام على معرفة جمهور مواقع التواصل الاجتماعي.

تعتقد هذه المغنية الشابة أن فكرة وضعها في صندوق من قبل متابعيها على مواقع التواصل تقلل من قيمتها كإنسانة، صحيح أنها ترتبط في ذاكرة بعضهم بصور ما تعود إلى لحظة أو زمن أو صورة معينة، لكن الاكتفاء بتلك الصورة مهينة للفنان نفسه، لأن هناك ما يتغير فيه ويتقدم.

الفنان، ليس كتلة جامدة، يتفهم الملاحظات السلبية لكنها لا يمكن أن تكون أقل إيلاما عليه. ذلك ما يفسر علاقة إيليش التي ستدخل العشرين من عمرها بعد شهرين، مع جمهورها عندما عبرت عن سأمها من وسائل التواصل وتمنت أن تكون العلاقة مع الجمهور بغير هذه المواقع.

وقالت “أنا لست لعبة على وسائل التواصل”، مطالبة جمهورها بالتعامل مع الجانب الفني الأكثر نضجا فيها.

بالنسبة إلى جمهور هذه المطربة فإنه لم يتأثر بمغادرة مئة ألف متابع لحسابها، لأنه جزء من العلاقة التاريخية التي كانت ويجب أن تبقى بين الفنان وجمهوره. بينما تعمل مواقع التواصل على كسر تلك العلاقة، وتقسم الحقيقة إلى عدة حقائق وفق الأعداد المليونية من المستخدمين.

هل تنهي القصة عند إيليش؟ لا أرى ذلك لأن شركات مواقع التواصل والمعلنين ستكون أكثر اهتماما من المغنية نفسها إزاء هذه الأرقام المتغيرة من المستخدمين. فحجم خسارتها ليست اعتبارية كما هي عند الفنان، بل مالية عند إنستغرام وما ينتظره من إعلانات. يكفي أن نعرف أن فيسبوك قدرت أن 11 في المئة من المستخدمين النشطين شهريا عام 2020 كانوا مكررين! فمن يثق بعدها بالبيانات الظاهرة لعدد المتابعين؟