لا وطن ولا مواطنة ولا روح وطنية

تم تنفيذ حكم الإعدام بالدولة الوطنية حين تحول التدخل الخارجي في شؤون الدول العربية إلى نوع من الحراك السياسي الداخلي.

سيغضب المتفائلون لو قلت إن دولا مثل العراق وسوريا واليمن وليبيا ولبنان لا أمل في عودتها إلى المسار الطبيعي الذي يصنع منها دولا ذات قيمة في المجتمع الدولي أو في العالم العربي على الأقل. فبعد أن التحقت تلك الدول بالصومال لم يعد في إمكانها الخروج من مأزقها التاريخي، بل أنها لم ولن تشهد محاولات حقيقية عميقة للخروج من ذلك المأزق. ما جرى لهذه الدول عبر العقود الماضية لا تنفع معه محاولات الترقيع حتى لو استندت إلى خزائن مفتوحة من الأموال. لا يفعل المال شيئا مقابل غياب أو تغييب الإرادة الوطنية. تلك دول انقلبت على نفسها ومسخت تاريخها ولم تعد تهتم بمستقبلها وأنا أشك هنا أن مفهوم المستقبل كما نعرفه واضح في إذهان الطبقات السياسية التي صارت لا تأبه بفشلها. ولا أبالغ إذا ما قلت أن معادلة النجاح والفشل لم تعد تحكم عمل تلك الطبقات التي سعت من خلال استقرارها في السلطة إلى تطبيع الفساد. الأمر الذي لا يشير إلى تعثر عملية التنمية، بل إلى غيابها المطلق. ودول من غير تنمية انما هي دول لا يعنيها أن يسقط معظم سكانها تحت خط الفقر من غير الحاجة إلى أي تفسير منطقي.

بطرق مختلفة تم تغييب الدولة وإنهاء حضورها القانوني في الدول المذكورة. بحيث صارت الدولة مجرد فكرة تُذكر قي المناسبات العامة التي لم تعد صفة "الوطنية" تليق بها. ذلك لأنها قد تشكل مصدر إزعاج وقلق للأطراف التي لم تضعها في سياق منطلقاتها النظرية أو في برامجها الحزبية. وإذا ما كانت الأحزاب التقليدية العربية قد تمسكت بمصطلح "الوطن" من غير أن توسعه لتشتق منه مصطلح "المواطنة" وإن استعملت المصطلح الأخير في إطار مجازي فإن "الوطنية" كانت حاضرة بالرغم من أنها دخلت إلى المزاد مثل كثير من البضائع التي انبهرت بلمعانها عيون السياسيين. غير أن كل ذلك صار شيئا من الماضي. الآن وقد صار "لبنان لصاحبه حزب الله" و"اليمن لصاحبه الحوثي" لم يعد أمامنا سوى أن نبحث عن أصحاب سوريا والعراق وليبيا الموزعين بين الولايات المتحدة وإيران وتركيا وروسيا. وهو بحث لا قيمة له مقابل الحقيقة التي تؤكد أن تلك الدول قد فقدت استقلالها وسيادتها على أراضيها حين صارت تُدار من قبل جماعات وتنظيمات ليست وطنية ولم تكن قبل استيلائها على السلطة تملك برنامجا سياسيا وطنيا. وهي في كل الأحوال غير متأكدة من استمرار بقائها على المسرح السياسي.

لقد قيل إن زمن الدولة القومية قد انتهى. هُزم جمال عبدالناصر وقُتل صدام حسين وانتهى حافظ الأسد إلى الفشل على يد إبنه. ولكن ماذا عن الدولة الوطنية التي صارت هي الأخرى محطا للشبهات؟ لقد تم تنفيذ حكم الإعدام بالدولة الوطنية حين تحول التدخل الخارجي في شؤون الدول العربية إلى نوع من الحراك السياسي الداخلي. وما كان لذلك الحراك أن يأخذ مساحته المؤثرة لولا هشاشة النظام السياسي العربي. لذلك لا يمكننا إنكار حقيقة أن صدام حسين هو الذي مهد الطريق للغزو الأميركي وأن بشار الأسد هو المسؤول عن تمزيق سوريا وأن معمر القذافي هو الذي استدعى طائرات حلف الناتو لضرب ليبيا وأن علي عبدالله صالح هو الذي سلم اليمن للحوثيين وأن اللبنانيين مسؤولون عن تسليم بلادهم لحزب الله وأن زين العابدين بن علي حول تونس إلى دكان كان من اليسير على حركة النهضة أن تستولي عليه. كل ذلك صحيح ولا غبار عليه. ولكن الإرادة الوطنية وقد اختفت تظل هي اللغز المحير.   

لقد تراكمت الأخطاء غير أنها ظلت في إطار الفشل الوطني. ما يحدث اليوم في غير دولة عربية لا علاقة له بالإنهاك الذي تعرضت له الروح الوطنية بسبب حماقات الأحزاب التي خُيل إليها أنها من خلال تأليه زعمائها ستتمكن من المستقبل. ما تتعرض له دول عربية سلمت أمرها لجماعات وتنظيمات غير وطنية هو احتلال من نوع جديد. العراق واليمن وسوريا وليبيا هي دول محتلة يتم تصريف شؤونها من قبل عملاء محليين. فلا وطن ولا وطنية ولا مواطنة. وهو ما يعني أن ليس هناك مستقبل في الأفق. فمن غير إرادة وطنية لا يمكن أن تكون للمواطنة معنى. ومن غير روح وطنية لا يمكن أن يكون للوطن وجود.