لبنان اعترف بإسرائيل... متى يعترف الحزب بلبنان

لم يعد مطروحا مصير موقع رئاسة الجمهوريّة في لبنان بمقدار ما أن المطروح مصير لبنان الذي قضى ميشال عون وجبران باسيل عن كلّ مقومات وجوده.

يحاول ميشال عون، مع انتهاء عهده البائس، تسويق إنجاز ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. يفعل ذلك، علما أنّه إنجاز لا علاقة له به من قريب أو بعيد. لا يعرف ان بهلوانياته مع صهره جبران باسيل، وهي بهلوانيات تشمل استعانتهما بممثل من الدرجة العاشرة من طينة الياس أبو صعب، لا تنطلي على أحد لا في لبنان ولا خارجه.

في النهاية من توصّل إلى إتفاق مع إسرائيل، كان "حزب الله"، أي ممثل "الجمهوريّة الإسلاميّة" في لبنان. إنّه إتفاق إيراني – إسرائيلي – أميركي. تحقّق الإتفاق في ضوء حاجة ايران إلى بقاء هيمنة "حزب الله" على البلد لا اكثر ولا أقل. كلّ ما في الأمر أن "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران في حاجة أكثر من أي وقت للحزب الذي لديه أدوار في غاية الخطورة يلعبها في لبنان وخارج لبنان، خصوصا في سوريا والعراق واليمن.

لا يمكن لإيران، بنظامها الحالي، المغامرة بحرب وإن بالواسطة، مع إسرائيل. مثل هذه الحرب معروفة نتائجها سلفا. لا شكّ أنّ حربا من هذا النوع ستلحق بعض الأذى، وربّما كثيرا من الأذى، بإسرائيل، لكنّها ستؤدي حتما إلى تدمير ما بقي من لبنان، بما في ذلك بنية الحزب الحاكم.

كان الرحيل عن قصر بعبدا الخدمة الوحيدة التي يستطيع ميشال عون تأديتها للبنان واللبنانيين بعدما الحق بالبلد كلّ الأضرار التي يمكن ان يلحقها به خدمة للمشروع التوسّعي الإيراني. تولّى في نهاية المهمة الموكولة إليه منذ العام 2006، تاريخ توقيع وثيقة مار مخايل. تتمثّل هذه المهمّة في لعب دور الأداة المسيحية في تغطية إتفاق كان الطريق الذي اوصله إلى رئاسة. كان مطلوبا من ميشال عون تغطية سلاح "حزب الله" بصفة كونه رئيسا للجمهورية من جهة وممثلا لقسم من المسيحيين اللبنانيين الذين يتمتعون بمقدار كبير من السذاجة والسطحية والحقارة من جهة أخرى.

لا يدل على مدى سطحية ميشال عون أكثر من التصريح الذي أدلى به عندما قال في تغريدة له إنّ "انجاز ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية عمل تقني ليست له أي ابعاد سياسية أو مفاعيل تتناقض مع السياسة الخارجية للبنان في علاقاته مع الدول". مثل هذا الكلام لا يصدر سوى عن شخصيات كاريكاتورية لا تتقن سوى لعب دور الأداة في وقت، بات أكيدا أن الاتفاق الذي وقّع في الناقورة، أغلق نهائيا جبهة جنوب لبنان للمرّة الأولى منذ توقيع اتفاق القاهرة في العام 1969. كان الجنوب مجرّد "ساحة" لتبادل الرسائل يستخدمها الإسرائيلي والإيراني والسوري. بعد إتفاق ترسيم الحدود البحرية، صار هناك إتفاق "تاريخي" يعني إعترافا لبنانيا بإسرائيل لكنّه لا يضمن إعتراف "حزب الله" بلبنان.

من هنا، يصحّ السؤال هل تخلّى العالم، بما في ذلك اميركا وأوروبا، عن لبنان؟ هل حصل التخلي بمعنى القبول بأمر واقع يتمثّل في أنّ "الجمهوريّة الإسلامية" في ايران باتت، عبر "حزب الله" مرجعيّة لبنان؟

ليس سرّا أنّ لبنان صار متروكا لمصيره، خصوصا أنّ ليس ما يشير إلى إحتمال إنتخاب رئيس للجمهوريّة في المستقبل المنظور. على العكس من ذلك، يبدو أنّ رئيس مجلس النواب نبيه برّي، عبر دعوته إلى مؤتمر للحوار، يهيئ الأجواء لفترة طويلة من الشغور الرئاسي ولإدارة للبلد عن طريق حكومة مستقيلة برئاسة نجيب ميقاتي.

ثمة أمر واقع إقليمي ودولي يعكسه مباشرة إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش وثمّة أمر واقع آخر يعكسه الرضوخ الأوروبي والأميركي لكون القرار اللبناني قرارا يتّخذ في طهران وليس في أي مكان آخر. كانت فرنسا، عبر رئيسها إيمانويل ماكرون، أول من رضخ لمشيئة "حزب الله" في لبنان.

إرتكب ميشال عون من أجل الوصول إلى رئاسة الجمهورية، بتواطؤ مع جبران باسيل، جريمة لا تغتفر. وضع الموقع المسيحي الأوّل في لبنان في خدمة المشروع التوسّعي الإيراني. يعود ذلك، بكلّ بساطة، إلى رغبة جامحة لا تتوقف عند أي إعتبار أخلاقي في الوصول إلى قصر بعبدا.

لم يعد مطروحا مصير موقع رئاسة الجمهوريّة في لبنان بمقدار ما أن المطروح مصير لبنان الذي قضى ميشال عون وجبران باسيل، عن سابق تصوّر وتصميم، عن كلّ مقومات وجوده بدءا بالقضاء على استقلالية السلطة القضائيّة. يرحل ميشال عون غير مدرك لمعنى إنهيار النظام المصرفي اللبناني وسرقة المصارف، بمشاركة من الدولة، لأموال اللبنانيين والعرب والأجانب التي كانت مودعة في بيروت. لم يفهم، إلى الآن، أبعاد مثل هذا الإنهيار. لم يفهم أيضا معنى رفض التحقيق الدولي في كارثة تفجير مرفأ بيروت خشية كشف دور "حزب الله" أو آخرين عملاء للنظام السوري في تحزين مادة نيترات الأمونيوم في عنابر مرفأ العاصمة اللبنانيّة.

مثل هذا الجهل الذي يعشعش في رأس ميشال عون، يعبّر عنه، شكل المنزل الفخم في منطقة الرابية الذي انتقل اليه بعد خروجه من قصر بعبدا. يشير اختيار منزل بهذه الفخامة وقلّة الذوق، في الوقت ذاته، إلى انّ ميشال عون ليس انسانا على علم بما يعاني منه المواطن اللبناني، بل هو خال من أي شعور إنساني من أي نوع...

يبدو طبيعيا عجز ميشال عون عن استيعاب الأبعاد السياسية المترتبة على توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. من لم يفهم في صيف العام 1990 معنى احتلال صدّام حسين للكويت وما سيترتب على ذلك إقليميا... يصعب عليه فهم معنى إتفاق ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل وتحوّل ايران إلى من يقرّر من هو رئيس الجمهورية اللبنانية في هذه الظروف بالذات.

مسكين لبنان. جاءه في اصعب مرحلة يمرّ فيها، منذ قيامه بحدوده الحاليّة، أسوأ رئيس للجمهوريّة يمكن أن يراه اللبنانيون في الكوابيس. إنّه رئيس يرفض أخذ العلم بأنّ لبنان اعترف بإسرائيل ولا يرى عيبا في أن يكون في خدمة حزب لا يعترف بلبنان!