مرآة رقمية للمجتمع المغربي في 'البوز' و'روتيني'
الرباط ـ في ظل التحولات الثقافية والاجتماعية التي تشهدها المجتمعات المغربية، تُعتبر السينما أداة فعّالة للتعبير عن التغيرات المجتمعية وتأثيراتها على الأفراد. ومع تطور وسائل التواصل الاجتماعي وانتشارها الواسع في حياة الناس اليومية، أصبحت هذه الأدوات الرقمية محورية في التفاعلات الاجتماعية. وتبرز أفلام مثل "البوز" و**"روتيني"** كمحاولات سينمائية مغربية لطرح قضايا العصر الراهن، بما في ذلك السعي وراء الشهرة عبر الإنترنت وتداعيات ذلك على الحياة الشخصية. ورغم الإمكانيات المحدودة التي تحيط بإنتاج هذه الأفلام، فقد نجح كلا العملين في الجمع بين الترفيه والرسائل النقدية التي تعكس الواقع الاجتماعي.
وتدور أحداث الفيلم السينمائي "البوز" للمخرجة المغربية دمنة بونعيلات حول فتاة شابة من حي شعبي تمتلك موهبة كبيرة في الغناء، ولكنها تعاني وتواجه الكثير من العراقيل بسبب هيمنة أسماء غير موهوبة على الساحة الغنائية.
الفيلم من سيناريو كليلة بونعيلات، وبطولة كل من دنيا بطمة، وعبد الله فركوس، وابتسام بطمة، ونعيمة بوحمالة، ومراد العشابي، ورفيق بوبكر.
ويتناول فيلم "البوز" تأثير وسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الشخصية وسبل إدارة الهوية في العصر الرقمي، وذلك من خلال شخصية البطلة التي تسعى للظهور على منصات السوشيال ميديا لتصبح مشهورة. وتُبيِّن مشاهد الفيلم انغماس المجتمع في سعي محمومٍ وراء الشهرة على حساب القيم الإنسانية والتواصل الواقعي. وتزداد هذه الظاهرة في المغرب مع انتشار هذه الوسائل الرقمية، مما يخلق فوارق بين العلاقات الحقيقية والعلاقات المبنية على "الظهور" والادعاء. وقد استخدمت المخرجة أسلوبًا سرديًا بسيطًا لكنه قوي، يُبرز التوترات النفسية والاجتماعية التي تنجم عن هذه الممارسات، ما يجعل من فيلم "البوز" مرآة اجتماعية تفضح الغطاء الزائف للشهرة الرقمية.
وتدور أحداث فيلم "روتيني" للمخرج لطفي أيت الجاوي، عندما تبدأ ربة المنزل "نورا" في نشر حياتها على وسائل التواصل الاجتماعي، فينقلب دورها الجديد باعتبارها مؤثرة، حياة عائلتها رأسًا على عقب، وخاصة زوجها "عبد الواحد"، المحامي المتألق، وتبدأ رحلة النجاحات والنكسات.
الفيلم من بطولة كل من عزيز داداس، وماجدولين الإدريسي، ورفيق بوبكر، وسعاد العلوي.
ويطرح فيلم "روتيني" معالجة لمفهوم الخصوصية في ظل التوسع الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي، فبطل الفيلم، وهو محامٍ، يعاني من تأثير تصرفات زوجته عبر الإنترنت. ويمثل شخصيةً تعكس الصراع بين الحياة الشخصية والمهنية في عصر يحاصرنا فيه الفضاء الرقمي. وهذا الصراع يظهر في العديد من الأسر المغربية التي باتت حياتها الخاصة عرضة للجمهور على وسائل التواصل، مما يهدد التوازن الأسري.
ويُبرز فيلم "روتيني" للمخرج لطفي أيت الجاوي كيفية تأثير العوامل الرقمية على العلاقات الزوجية والعاطفية، في سياق يطرح تساؤلات حول تأثير الثقافة الرقمية على استقرار الحياة الشخصية.
ومن الواضح أن أحد التحديات التي تواجه السينما المغربية هو القصور في الإمكانيات المادية، إلا أن كلًا من "البوز" و**"روتيني"** استطاعا التفوق على هذه العوائق من خلال استخدام الموارد المتاحة. ففي "البوز"، على سبيل المثال، تم استخدام مواقع تصوير حقيقية، وكان التركيز على الحياة اليومية يُضفي مصداقية على واقع المشاهد، كأداة لخلق تفاعل أكبر مع المتفرج، الذي يمكنه التعرف على البيئة التي تجري فيها الأحداث. كما أن التصوير الداخلي والابتعاد عن تكاليف مواقع التصوير المعقدة سهّل أيضًا عملية التحكم في أجواء الفيلم بشكل فعّال.
وفي فيلم "روتيني"، كانت التكلفة المحدودة حافزًا للتركيز على التفاصيل الصغيرة التي تؤثر على العلاقات الإنسانية، إذ اعتمد الفيلم مشاهد يومية قلّلت من التكاليف.
وتُعد السينما وسيلة قوية لطرح قضايا المجتمع والتفاعل معها. وفي "البوز" و**"روتيني"**، يتبين أن السوشيال ميديا تُشكّل محركًا رئيسيًا في تغيير الملامح الاجتماعية. ويعكس فيلم "البوز" هذه الحقيقة من خلال نقده لظاهرة الشهرة الرقمية، حينما يحاول أن يوضح كيف أن البعض قد يعرضون حياتهم الشخصية على الإنترنت من أجل الحصول على "البوز" والشهرة، غير مدركين العواقب النفسية والاجتماعية لهذا السلوك. فالفيلم يُثير تساؤلات حول قيم المجتمع في ظل انتشار هذه الظاهرة، ويُظهر كيف أن هناك فوارق بين القيمة الحقيقية للإنسان والاهتمام بالظهور العام.
وفي فيلم "روتيني"، يتم تناول موضوع الخصوصية بشكل أكثر وضوحًا، وكذلك التأثير السلبي لوسائل التواصل الاجتماعي على العلاقات الزوجية. كما يتم تصوير شخصية المحامي وزوجته في حالة من التوتر المستمر بسبب التصرفات على الإنترنت، ويُقدم هذا الفيلم نقدًا مباشرًا للثقافة الرقمية التي جعلت من الحياة الشخصية عرضة للجميع، مما يُبرز مشكلة حقيقية في المجتمع المغربي اليوم.
وفي كلا الفيلمين، يتم التركيز على التأثير النفسي للتكنولوجيا على الأفراد. ويعرض فيلم "البوز" كيف أن السعي وراء الشهرة قد يؤدي إلى مشاعر العزلة والقلق، إذ يصبح الشخص أكثر اهتمامًا برأي الآخرين من اهتمامه براحة نفسه. بينما في "روتيني"، يبرز التوتر النفسي الذي يعانيه الزوج بسبب تصرفات زوجته على السوشيال ميديا. وهذه المواقف تُظهر العقد النفسية التي يواجهها الأفراد في عصر التواصل الرقمي، حيث يصبح الحفاظ على السلام الداخلي أمرًا صعبًا في ظل ضغط العالم الافتراضي.
ونجح كلا الفيلمين في تقديم مزيج من الترفيه والنقد الاجتماعي، مما جعل من الصعب على الجمهور أن يرفض مشاهدة أي منهما. ففي "البوز"، تم تضمين عناصر فكاهية تتعلق بثقافة السوشيال ميديا، مما جعل الفيلم أكثر جذبًا لشريحة واسعة من الجمهور الذي يعشق التسلية ويبحث عن محتوى يتناسب مع العصر الرقمي. أما "روتيني"، فقد وظّف الأسلوب الدرامي ليكون أكثر تأثيرًا في تقديم نقد اجتماعي قوي دون الابتعاد عن الجاذبية التجارية.
القدرة على الترفيه مع تقديم رسائل نقدية تُعد أمرًا بالغ الأهمية في السينما التجارية، خاصة في ظل الظروف الحالية التي تتسم بتوجه الجمهور نحو الأعمال التي تتناغم مع اهتماماتهم الرقمية دون أن تبتعد عن القضايا العميقة.
ويُتضح أن الفيلمين المغربيين "البوز" و**"روتيني"** قد استطاعا استثمار الظروف الاجتماعية الراهنة في المغرب لتحويل هذه التحديات إلى فرص سينمائية ذات طابع نقدي وتجاري في آنٍ واحد. ومن خلال التركيز على قضايا الشهرة الرقمية وتأثيرها على الحياة الشخصية، قدمت هذه الأفلام صورًا واقعية لمجتمع يتغير بسرعة تحت وطأة العصر الرقمي. ورغم عراقيل الإنتاج التي تواجه صناعة السينما المغربية، استطاع المخرجان أن يُقدّما أعمالًا مبتكرة تحاكي الواقع وتُثير الأسئلة حول القيم الاجتماعية في ظل تطور التكنولوجيا. وهذا تحديدًا يُوضح قدرة السينما على التأثير في المجتمع وتحقيق النجاح التجاري من خلال رسائلها النقدية المؤثرة.