'ملاح النهر' تسبح في قيمة الإنتاج والجودة

رواية عيسى بيومي تسلط الضوء على رحلة المهندس عمران إبراهيم من العمل في المصانع الى تحوله لواحد من كبار رجال الأعمال ودخوله مجلس الشعب وتركز على القيم التي تزين سلوكه وتوصله المناصب القيادية.

تنتمي رواية "ملَّاح النهر" للكاتب الروائي عيسى بيومي إلى تيار رواية السيرة، فهي تروي سيرة عمران إبراهيم منذ أن تقدم بطلب للعمل في أحد مصانع أجهزة التبريد والتكييف بعد تخرجه من كلية الهندسة في بداية التسعينيات، وحتى صار من كبار رجال الأعمال في مصر، وانتخب عضوا في مجلس الشعب، وتنتهي الرواية بثورتي 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013.
وكان البطل الرئيسي فيها ليس هو صاحب السيرة عمران إبراهيم، ولكن القيم والمبادئ والمثل التي حكمت سلوك صاحب السيرة، وخاصة قيم العمل والجودة والمعاملة التي أوصلته إلى المناصب القيادية المتوالية. فقيمة العمل – التي يعيشها – ليست في نوعه أو شكله، وإنما في كيفية أدائه، وما يضيفه من خير.
فضلا عن قيمة الزمن، فالزمن عند عمران إبراهيم لا يقبل تسلسل الأحداث كما يسجلها تعاقب السنين، وتشير إليها حركة الساعات، وإنما يقارن بمراحل حياته المختلفة، فربما يبدأ الزمن في سن متأخرة. ويضرب السارد أمثلة في ذلك بالشاعر الألماني غوته الذي أحب "أورليكا" وهو في الرابعة والسبعين من عمره، وبعباس محمود العقاد الذي تجاوز الخمسين وهام بهنومة وهي في الثامنةَ عشرةَ من عمرها.
وهنا يبرر السارد وقوعه في حب مدرِّسته الجميلة وهو طفل في العاشرة. ولكنه في الخمسينيات عاش قمة شعوره بالحياة أثناء أحداث ثورة 2013، حيث كانت حياته تصطخب بكل أنواع العواصف في العمل، في الأسرة، في الوطن. كانت تلك الأيام زهوَ عمره، وعنفوان وعيه بالحياة. فقد حملت التحدي لمعرفة حقيقة ذاته وقوة الخير فيها ومدى إدراكه للصواب، ومعنى العدل مع النفس والآخرين من حوله.
وهذه هي القيم التي عاش من أجلها عمران إبراهيم، وتجسدت على طول صفحات الرواية البالغة 364 صفحة، من فصل إلى فصل ومن موقف إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، ومن زمن إلى زمن.
فبالعمل عرف عمران إبراهيم نفسه، وكان ذلك في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، بعد أن تخرج في كلية الهندسة، وكان عبورُه إلى عمله في مصنع أجهزة التكييف ليست شهادته الجامعية، ولكن قدرته على العمل وأمانته في الأداء، والعمل بيده أو بعقله، أو كليهما.
وهنا تكمن رسالة الرواية، ورسالة السارد، ورسالة الكاتب، التي ظل متمسكا بها، ويحاول تطبيقها في كل مجالات حياته. إنها قيمة العمل، وليست قيمة الشهادة والوساطة ولغو الكلام.
وقد سارت هذه القيمة في أوصال الرواية وفصولها الأربعين وواحد، لتشكل سيمفونية روائية تُعزف على أوتار القيم الإنسانية الأصيلة التي كدنا أن ننساها ونفقتدها في زحمة الحياة ولهاثها ومطالبها التي تطحن الإنسان طحنا، وتُبرز أسوأ ما فيه، وهو ما تجلى في زوجة عمران إبراهيم وأولاده قرب نهاية الرواية، فخرج أسوأ ما فيهم من طمع وتكالب على المال وحياة الرفاهية التي داستْ على الإنسان فيهم، وأخذتهم إلى عبادة المال والمظاهر الزائفة.
وعلى الناحية الأخرى وجدنا من هم يؤمنون بأفكار عمران وقيمه مثل فتحي حسن صاحب المصنع الذي عمل فيه عمران لتأكيد قيمة الصناعة الوطنية، والذي قال له ذات مرة: "جئتنا لتتعلم صناعة التكييف، لكنك علمتنا جميعا معنى العمل". وهي من العبارات المركزية التي نهض عليها العمل وقيمته في المجتمع الإنساني. هكذا كان عمران في حياته صادقا محبا للعمل ولزملائه، وعضوا فاعلا ومؤثرا في مجتمعه. 
ونجد أيضا صديقه الصيني تشانج هان، وزميله حسين شقيق زوجته الذي كان ينكر عليها أفعالها وشرهها إلى المال وغضبها من زوجها الذي قرر أن يدفع مرتبات العاملين في مصنعه أثناء الاضطرابات وأحداث الثورة وعدم دوران الآلات والعمل، وهذه اللقطات الخلفية والإنسانية لأحداث الثورة التي لم ينتبه إليها الكثيرون ممن يكتبون عن الثورة بطريقة مباشِرة وفجَّة، ولم يخرجوا من الميادين لرصد وقع الأحداث على أفراد المجتمع وفئاته المختلفة.
وتأتي عناوين فصول الرواية الـ41 لتشكل عتبة من أهم عتبات ذلك العمل، فكل عنوان له دلالته وله قراءته وله سياقه الفني المعبر، بدءا من عنوان الفصل الأول "العمر والزمن"، ثم "الزمن والألم" في الفصل الثامن، مرورا بعنوان الفصل الثاني "بالعمل أعرف من أنا" الذي يشي بدلالة صوفية أو عرفانية، تذكرنا بأبيات إيليا أبوماضي التي يقول فيها:
إن نفسًا لم يُشرق الحبُّ فيها ** هي نفسٌ لم تدرِ ما معناها
أنا بالحبِّ قد وصلتُ إلى نفْـ ** سي وبالحبِّ قد عرفتُ اللهَ
إن عيسى بيومي من خلال عنوان هذا الفصل – بل من خلال أجواء الرواية ككل - يجعل العملَ معادلا للحب، أو بديلا عنه، بل هو دينُه، والجودةَ أسلوبَ حياته، وهو يصرُّ على ذلك في غير فصل بالرواية وفي غير عبارة مثل قوله: "يجب أن تتحول الجودة إلى سلوك ومنهج حياة"، وهي عبارة مركزية أخرى تدور حولها أغلب فصول الرواية، وحوارات بطلها عمران إبراهيم. مؤكدا أنه من المهم ألا نستبدل القيم حين نصعدُ السلم أو نهبطُه، وبهذا ترتبط حركتُه.
كما أنه يتخذ من العلم عقيدته، بل أن العلم أصبح دينَ الحضارة. وهو ما جسده نجيب محفوظ في شخصية "عرفة" في روايته الأشهر "أولاد حارتنا". بل يؤكد محفوظ 
أن العلم هو أحدث وأقوى منهج عرفه الإنسان لمعرفة العالم من حوله ولمعرفة نفسه.
لقد أحبَّ نجيب محفوظ العلم ورأى فيه مستقبل البشرية. وفي أحد حواراته قال "إن العلم يُشبع في نفسي أشياءَ كثيرة غير عادية". وهو يرجو أن يأتي اليوم الذي نتفق فيه جميعا على أن العلمَ وحده هو ديوان العرب.
وينطبق على عيسى بيومي تعديل بيت إيليا أبوماضي بعد تكسير آلية الوزن بطبيعة الحال، لتتناسب مع آلية العلم والعمل:
أنا بالعلمِ قد وصلْتُ إلى نفـْ ** سي وبالعملِ قد عرفتُ الله
إن هيمنة أجواء العمل على هذا النحو في رواية تقدس قيمة العلم والعمل، وتجعله يعلو فوق قيمة الحب والعاطفة الإنسانية، ربما تكون هي التي قادت عمران إبراهيم إلى مصادمات نفسية مع أسرته وخاصة زوجته وأولاده. وقد تجلى هذا في حرص السارد على التوغل في شرح مفردات عمله الهندسية بطريقة معلوماتية بحتة ودقيقة، وأحيانا بطريقة جافة ومملة، مما تسبب في إيقاف السرد الروائي غير مرة، والانتقال إلى السرد المعلوماتي، وهذا هو الفرق بين الحب كعاطفة إنسانية يعبر عنها الأديب أو الإنسان العادي، والعمل كقيمة يتم التعبير عنها بطريقة آلية أو علمية تخلو من الفن والمتعة.
حتى في لحظات حب السارد لزميلته منال، التي كانت سكرتيرة لمديره القديم فتحي حسن، ثم عملت معه في مصنعه الجديد. نجد السارد متحفظا لا يفصح كثيرا عن مكنون قلبه ودفق مشاعره وعواطفه، وكأن آلية العمل ابتلعت الكثير من الأحاسيس والمشاعر أو أدت إلى كمونها وتراجعها، أو رسمت وجها صارما صلبا لا تبين ملامحه الجوانية أو الداخلية بسهولة. واستطاع السارد بنجاح أن يصدّر هذا الإحساس للقارئ.
وقد كان السارد بارعًا جدا عندما وصف مدخل العلاقة المثلية بين زوجته مديحة وصديقتها سمية التي كانت لا تطيق الرجال، ولكنها تزوجت لتخرج بصفقة مليونية من زوجها الذي قام بتطليقها لتعيش حياتها الشاذة، يقول السارد: "لم تلحظ مديحة أن يد صديقتها ظلت فوق يدها زمنًا أطول مما اعتادته منها، أو ربما لاحظت ولم تعترف لنفسها به، وأنكرت حدوثَه". ولكن نمو الصداقة بينهما والاتفاق على هدف واحد، وهو طلاق مديحة من عمران، والعمل على تنفيذه، واللقاءات المتتالية بين السيدتين، والإصرار على الانفصال، يؤكد أن تلك العلاقة المثلية في سبيلها إلى التطور والتحقق.
وهو ما يذكرنا بعلاقة مثلية أخرى في رواية الدكتور أحمد صبرة "زهران الذي هوى" نشأت وترعرت بين صفية (بطلة الرواية) وبنت خالتها أنيسة، وعلى الرغم من ملاحظة الضابط زهران لملابس أنيسة الكاشفة وخروجها من حجرة نوم صفية أثناء عودته المفاجأة من عمله، فإنه لم يشك بوجود تلك العلاقة التي كانت سببًا في فتور صفية بعض الشيء نحو زوجها في العلاقة الحميمية.
ويعترف عمران إبراهيم في عنوان الفصل الثالث بأنه ينقصه المزاح، فحياته كلها جد في جد، وربما هذا المزاح أو الدعابات سواء بالقول أو بالفعل هي التوابل التي كانت تنقص أجواء الرواية، لإدخال نوع من البهجة والمرح السرور في بعض فصولها، فتزيل الكثير من الأمور الجادة أو الصارمة أو الجهمة أو المتجهمة في أجواء العمل، رغم أننا إزاء شخصية مثقفة قارئة متفاعلة مع بيئة العمل، ولعلنا نلمح ذلك من خلال بحثه عن كتاب "تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق" للفيلسوف الألماني عمانويل كانط الذي ترجمه إلى العربية الدكتور عبدالغفار مكاوي وراجعه الدكتور عبدالرحمن بدوي، وكان يبحث عنه في مكتبات وسط القاهرة. في حين أن منال كان تبحث عن ديوان شعر عاطفي بعنوان "كلنا عشاق" للشاعر إبراهيم عيسى. ولكل عنوان دلالته لدى قائمة اهتمامات كل طرف. وهناك التقيا، ويتضح من خلال التقدم في السرد أن منال خططت لمثل هذا اللقاء وغيرها من اللقاءات لتتقرب من عمران إبراهيم الذي أصبح مديرها بعد ذلك.
ونحن من خلال الرواية نستطيع أن نرصد ما مر على مصر من عقود سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية شكلت خلفية للكثير من فصول العمل، مع استخدام تقنية العودة إلى الوراء (فلاش باك) لتذكر بعض المواقف السياسية التي كان لها تأثير واضح على اللحظة الحاضرة. 
وعلى الرغم من استخدام بعض التقنيات الروائية الحديثة، فإن رواية "ملاح النهر" تبدو لي رواية كلاسيكية خطية ذات بداية ووسط ونهاية، فهي في النهاية سيرة إنسان مصري طموح تشغله فكرة قيمة العمل والجودة في الحياة، ومن أجل تحقيق هذا الهدف أو هذا الطموح اعترضه الكثير من العقبات ومن لحظات الفساد التي حاربها وانتصر عليها، وهذا في رأيي الدرس الكبير الذي نخرج به من تلك الرواية الخامسة لمؤلفها عيسى بيومي الذي سبق له أن أصدر الروايات: ميراث العهد، ووعد العمر، وحينما تُهدي الأقدار، والحاجز الصخري، إلى جانب مجموعتين قصصيتين هما: حصاد الفن، وعلى حافة الحياة. وحوارات عن الإسلام والمسلمين من شرق العالم إلى غربه. وفي انتظار المزيد من أعمال الكاتب والمفكر الروائي عيسى بيومي التي تحضُّ على قيمة العلم وتتمترس وراء قيمة الإنتاج والجودة في العمل وفي الحياة.