من الاحتواء المزدوج الى الاحتواء الشامل

الولايات المتحدة تعيد إلى العمل فكرة الاحتواء التي سبق وأن قادت إلى الكثير من المآسي في المنطقة.

ينقل عن الشخصية البغدادية الظريفة، ابراهيم عرب، صاحب المقهى الشهير المعروف باسمه، انه روى لجلاس مقهاه، ممن كانوا يأتون للاستمتاع بأكاذيبه البريئة والطريفة، واقعة غريبة نسجتها مخيلته الواسعة، وقصها بطريقته المشوقة، اذ قال: كان في بيتنا قطان كبيران، تعاركا في احد الايام، فاكل احدهما الاخر ولم يبق منهما الاّ الذيلين فاخذتهما ورميتهما في سلة القمامة!

في العام 1993 اطلق السفير الاميركي الاسبق في اسرائيل، مارتن انديك، نظريته المعروفة بالاحتواء المزدوج، لكل من العراق وايران. كان العراق وقتها منهكا تماما بعد خروجه من حربين مدمرتين وحصار اقتصادي غير مسبوق في قسوته، الاّ ان الهدف من كل ما حصل لم يتحقق بالكامل، ولا بد من اساليب جديدة، تجعل اميركا المنتشية بانتصارها على المعسكر الاشتراكي، تبسط هيمنتها على العالم بشكل تام. ولعل من بين اهم الدول في اكثر مناطق العالم حساسية، هما العراق وايران، وان وضع اليد عليهما يعني التحكم بالعالم، وهو ما ينبغي العمل عليه.

للاسف، لم تكن العلاقات بين دول منطقتنا يوما ما، مثالية، اذ القت الانقسامات العقائدية والاستقطابات الدولية بظلالها عليها، ولم تسعَ الانظمة المتعاقبة على بناء اسس سليمة لعلاقات مقبولة بين دولنا، ما فتح ثغرة تسللت منها المشاريع الخارجية العابثة. ولعل ابرز مدخل لمناكفات الانظمة ضد بعضها هو الموقف من القضية الفلسطينية، التي صار كل نظام يدعي انه الاصدق في الدفاع عنها او تمثيلها، حتى باتت وسيلته لتفريغ حمولة كراهيته ضد النظام الاخر. وهكذا ضاع الجهد وغابت الرؤية المشتركة في التصدي لاسرائيل وسط الخلافات التي اتسعت حتى وصلت الى حروب مدمرة، لم تنته الى شيء سوى اضعاف الدول والانظمة معا، بعد ان استنزفت الثروات البشرية والمادية، وضاعت عقودا من زمن مهدور بلا جدوى، واصبح الجميع امام مستقبل مجهول.

لقد كان من المفترض، ادراك ان استراتيجية تغيير الانظمة في منطقة حساسة، كمنطقة الشرق الاوسط، ليست بالمهمة اليسيرة لأي نظام، مهما طرح من شعارات جذابة، لان لعبة التوازنات الدولية التي يضعها الكبار يصعب على غيرهم تغيير قوانينها. لكن هذا لا يحول دون انضاج دول المنطقة او انظمتها لتصور مشترك، تفرضه تكتيكات ضرورية في سياق المواجهة مع اسرائيل، ان كانت جادة في ذلك، لتضمن في الاقل قوتها جميعا ووحدة بلدانها ايضا، بدلا من دفع الشعوب الى التصادم والاقتتال، في حروب انتهت لمصلحة اسرائيل ومشروعها التوسعي. فجميع الحروب المباشرة او التي بالنيابة، كما يحصل الان في اكثر من بلد عربي واسلامي، وقبل انطلاق شرارة ما يعرف بالربيع العربي، لم تحقق اهدافها التي توهمت بعض الانظمة انها حققتها، قبل ان تجد نفسها امام تداعياتها الخطيرة على امنها، كانظمة ودول معا، وبات مستقبلها في مهب العواصف الدولية القائمة والقادمة.

وما يحصل لايران اليوم ومحاولة اعادة الحصار عليها، تحت ذريعة البرنامج النووي، يمثل التجلي الاكبر لهذه التداعيات. وهو ما يدعو وبشكل لا يقبل التأجيل والتسويف، انظمة المنطقة لتقف جميعها امام نفسها وتراجع سياساتها السابقة والحالية، وان تتصالح مع نفسها ومع شعوبها التي انهكتها مشاريعها غير الواقعية، وتتفق على تصور مشترك لحل القضايا العالقة من دون مزايدات غير مجدية، لتنقذ ما يمكن انقاذه بدلا من الامعان في توسيع ميادين المواجهة ضد بعضها البعض، وتسخير طاقات الشعوب من اجل خراب مستقبلها وتدمير اسس عيشها المشترك، الذي عصفت به الاثارات الطائفية والعرقية التي اعتمدت عليها الانظمة في تعبئة الناس. ثمة ضرورة ان يحصل هذا الان وليس غدا باتت ملحة، والاّ فلا قيمة لمؤتمرات القمم العربية والاسلامية، ومقرراتها الانشائية التي لا تسمن ولا تغني عن جوع.

فهل تنتبه انظمة دول المنطقة، ولو بعد فوات الف أوان وأوان الى ان عملية احتوائها من قبل اميركا قد تمت على ايديها هي، وبطريقة لم تخطر على بال اكثر الاذكياء فيها، ممن كانوا يتفننون في اساليب التدمير والاستعداء، حتى اوصلوا الامور الى ما هي عليه اليوم، بعد ان اكلوا بعضهم البعض، ولم يبق من دولهم او من اغلبها الا الذيول التي سيلتقطها السيد الاميركي، ويلقي بها وبهم في سلة القمامة!