"نوة" رواية الجسد المدنس الباحث عن الخلاص والتطهر

وحيدة المي وفية للمرجعيات الأدبية والإنسانية غير منسلخة عن الموروث الثقافي بكل أبعاده الدينية والأسطورية والشعبية.
الكاتبة تمارس عبر الراوية فعل قتل الأب رمز الدنس أو الديك الذي يقود مجتمع الدجاج
الرواية بمثابة الاقتصاص من الرجل الذي يمارس كل أشكال الاعتداء والاغتصاب على المرأة
موضوع الرواية موضوع صادم يصور الأب في أبشع ردود أفعاله الحيوانية

بقلم: هيام الفرشيشي

"نوة" هي العمل الروائي البكر لوحيدة المي، صدرت عن الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم في 2016 في 138 صفحة. كانت الكاتبة وفية فيها للمرجعيات الأدبية والإنسانية غير منسلخة عن الموروث الثقافي بكل أبعاده الدينية والأسطورية والشعبية، عند طرح موضوع الرواية وهو الجسد المدنس الباحث عن الخلاص والتطهر بطرق سادية، أو ما عبر عنه جوزيف كيسال بالحلم المعكوس للمشاعر الأكثر رقة عبر الأفعال المتوحشة في تقديمه لرواية شتاين باك "نساء وفئران"، لتنقد من خلالها رواسب الأفكار التي تربط المرأة بالخطيئة وتنعتها بـ "زريعة ابليس"، بل تتوغل وحيدة المي في تفكيك صورة الأب المدنس رمز الدنس المادي والروحي في روايتها، عبر سرد وقائع صادمة واجتراح الذاكرة الطفولية لبطلة روايتها "نوة" المثقلة بأوهام وهلوسات الكائنات الخفية المرعبة التي تتلبس بالجسد وتمنع انعتاقه ليظل صورة تقطر دما في لوحة رسام لونها بالاحمر القاني. 
وتمارس عبر الراوية فعل قتل الأب رمز الدنس، الديك الذي يقود مجتمع الدجاج، ثم العشيق الذي يراها في صورة عاهرة. ولا تجد نوة التي حاولت التطهر من هذا الدنس عبر تجارب روحية عند المعالج الروحاني أو موسيقى الخلاص ذاتها ناصعة، لتنتهي الرواية بالعودة إلى القرية والفرن حيث تلتهم النار أمها والتحاقها بها لعلها نار الصوفية وذوبان الجزئي في الكلي أو هي تشوف لانبعاث جديد.
وكانت الرواية بمثابة الاقتصاص من الرجل الذي يمارس كل أشكال الاعتداء والاغتصاب على المرأة، فهو بمثابة سلطة أبوية تمارس قمعا وتنكيلا على الجسد. خاصة إذا اقترف زنا المحارم وهي أكبر خطيئة بإمكانها أن تحدث صدمة ترج كل القيم وتنزل الإنسان إلى مرتبة الحيوانية المدنسة. فموضوع الرواية موضوع صادم يصور الأب في أبشع ردود أفعاله الحيوانية. إنه الموروث الأبوي الذكوري النجس، جسد لن يتطهر إلا عبر الرجم "أب لا يستحق إلا الرمي بالحجر والقتل أيضا".  

الرواية تنتهي بالتخلي عن الجسد الدنيوي والمكان الدنيوي، عبر احتراق شامة وابنتها نوة في الموقد للاقتراب من المقدس عبر الموت حيث الفناء في الله، وإيذان بحياة جديدة وشكل جديد للوجود

"تقلصت مساحة الود بينهما وتراءى لها الأب في صورة شيطان يتلذذ بدموع عروس الخشب، رغم عشرة سنوات طويلة، حينئذ أست على أبوته حتى التصق وجهه بالتراب. بصقت على قفاه، ثم التقطت حجارة كبيرة، أكبر من قبضة اليد ورمته بها في بؤبؤ العين، حتى برك الثور الهائج".
يمثل الأب صورة الديك في مجتمع الدجاج يمارس عدوانه الذكوري، وهي ممارسة حيوانية نجسة لا ترتقي إلى قيم المحبة والرحمة "تراءت لها في تلك الآونة شامة مثل الدجاجة يتأبطها الأعور النتن.. فريسة منقادة من العنق ودون أن تفكر في عاقبة ما ستفعله، هرولت بعصا الزيتون نحو رأسه، وانهالت عليه بقسوة الطفلة الناقمة حتى أردته قتيلا". إنه نتاج ثقافة ذكورية تحتقر المرأة وتراها كائنا ناقصا دنسا.
" كان ينتظر في كل مرة خليفة ذكرا، لكنه لم يفلح في إنجاب جذع ذكري آخر، يواصل شد العقال حول العنق". 
فالأب يعنف ابنته وزوجته بقسوة ويكشف عن صورته السادية: "يضربها على أصابعها الصغيرة كلما غاصت أطرافها الطرية في المرق من فرط الجوع".
وفي موضع آخر "ابرح في ضربها وشد وثاقها، على شجرة الصنوبر في ليلة موحشة".
والمي في روايتها "نوة" تريد أن تقول إن طهارة الجسد الذكوري تحدد المعيار الأخلاقي، وكلما تدنس كلما سقطت القيم. جسد يكشف عن عوراته "اتفضح عورته عندما كان يتعمد التعري للتبول وهي قريبة منه". وفي المقابل يحرض على ستر جسد المرأة وتغطية شعرها والخفض من صوتها "اش تعملي في الخلاء. شعرك عريان وصوتك كيف الرعد".
ففي حين يرى الرجل المرأة جسدا عاهرا يسكنها الشيطان تمعن بطلة الرواية نوة في تصوير صورته بأقذع نعوت النجاسة. فهو خال تماما من الشرف. "خان الشرف، خان المتاع المقدس، أباح الدم بنفسه، فحل الدجاج. لم يكن غير حيوان لاحم، إلى الجحيم لا رحم الله عظما من عظامه".
إنها تعترض تماما عن تصورات ترى في المرأة مذنبة خطاءة، راسخة في اللاوعي الجماعي "اذهبي يا زريعة إبليس تفووه". ويجب تعذيبها ولم تبتعد عن النص القرآني في تصويره لوأد البنات وغلظة الأب كلما مني بابنة. فالمرأة بإمكانها التطهر والارتقاء إلى القداسة، وسمو الروح "أخيرا قررت العودة من منتصف الطريق، قررت أن تستحم من نجاستها، وتغادر أسرة الحرام وليالي الخونة، المدفونة في سرة الظلام". وبإمكانها أن تستجيب للقدر الذي حدده لها الرجل "نوة أيضا فارة المزابل، أسقطها الأعور في الدنيا وانصرف إلى الجحيم". 

لم تتطهر نوة بالماء وإنما بالنار
العمل الروائي البكر 

إن فضاء المدنس هو جسد الرجل يخترع صفات العهر لضحيته المرأة، أوجدتها اللغة الاجتماعية في انتصارها للسلطة الذكورية، تبيع جسدها بمقابل، تسمح له بالاغتصاب. فضاء تغيب عنه العاطفة "انتم استمرار رديء من جذوع رجولة لا تعرف غير التفريخ، لا وجود للحب في قلوبهم الاسفنجية، يكرهون المرأة في أعماقهم، ولكن اضطرارهم الحيواني يدفعهم لنهش لحمها النيء دون ان يطهى" . 
الرجل كائن يستحق اللعنة لأنه يسلب جسد المرأة من الروح ويتركها جيفة "اللعنة عليكم وعلى هذا اللحم حين يصبح لقمة في فم الكلاب ثم يرمى جيفة". في غياب الطقوس القدسية التي ترفع من دنس الرجل حتى في قبره ومع كل أذان الذي يستنهض الأرواح الخاشعة "رائحة الجيفة تنبعث من قبره مع موعد كل صلاة، إنه الآن مرقد الذباب والنمل" .
الرجل لن يشذ عن طبيعته إلا في حالة الخصاء كما حصل مع نوار الذي انفصل عن عالم الجسد الذكوري المعطب وانصرف الى عوالم الفكر والفن. أو في حالة شذوذ يفرضها نمط العيش البوهيمي كما هو حال الشاعر الفرنسي رامبو بإشراقات شعره التي تثير نوة، نوة التي تتعلق بعوالم شواذ يمنحونها المعنى.
مرايا الأنوثة المتكسرة
أي تطهير تمارسه المرأة لعلاج أنوثتها المشروخة، النازفة دما؟ وهو الذي يعتدي عليها حتى من خلال الكوابيس؟ أي اضطراب عقلي يصنع صورة أخرى لآثار الصدمة؟ أي هلوسات تتحول إلى كائنات خفية تتلبس بالجسد الانثوي وتؤذيه؟ وتتحرش به أثناء النوم ولا يستطيع مقاومتها؟ أي قناع يرتسم على وجهها ويمحو قسماته ويتنكر بتعابيره المسخ؟ "ابتسامة ذكورية ماكرة تطفح على قسمات وجهها.. إنها لا تعرفها.. لا تعرف نوة من هذا الذي يقتحم عليها جسمها؟ 
"صرخت في وجه المرأة وبسملت فصفق الخفاش في وجهها وطار، مخلفا وراءه صرير الأقفال الصدئة، كانت الخالة تفاحة تؤكد لها بين الحين والآخر أن الطارئ جني أسود أمير ابن أمير".
ذلك هو الموروث الثقافي الشعبي وخاصة في احتضانه  للسحر الأسود المدنس، فالكابوس هنا مرتبط بأساطير القرن الأفريقي بوبو باوا أو الخفاش المجنح "هوى عليها الوجه الدامي مثل الخفاش.. اجتثها من كتلة الطين، هربت من دمامته، أحكم قبضته واجتذبها إليه". أي علاج روحي قادر على ترميم شروخ الأنثى؟ هل هو قرآني إسلامي في فضاء الطهارة لا تنبعث منه رائحة الجسد الآسنة؟ وهي التي تمج الجسد المدنس الجيفة؟ "كان يرشف كؤوس الشاي ويكشف عن أنياب صدئة يلعق بأطرافها أعقاب سجائر نتنة".
إنه العفن المترسب في الأعماق وقد ترك بقاياه المتعفنة في جروح الجسد "هل تتقيا كل البرك الراكدة في جرحها منذ الطفولة؟".
فهل ممارسة شعائر التطهر الديني كفيلة بالتخفف من خطايا المدنس على الجسد؟
"السبت المقبل بعد العصر أريدك محتشمة، عودي إلى الصلاة اليوم، فالعلاج طهارة والمجلس لا يأوي إلا المتطهر".
وهي ممارسة طهورية لقتل الشيطان مصدر الشر والخطيئة الكبرى. "أذن المؤذن لصلاة المغرب، هرع الشيخ وجماعته للسماء، غرقت النسوة في الماء استعدادا للصلاة، هرعت العجوز تسند نوة، استفاقت من إغماء غريب، شعرت أنها تحررت من طاقة خفية أحكمت سيطرتها عليها". 
هل يكفي العلاج النفسي بالأدوية وجلسات المكاشفة النفسية لطرد الهلوسات؟ هل يكفي العلاج أم أن الجسد لم يتحرر تماما عبر العلاج الروحي والنفسي؟ انتهت الرواية بالتخلي عن الجسد الدنيوي والمكان الدنيوي، عبر احتراق شامة وابنتها نوة في الموقد للاقتراب من المقدس عبر الموت حيث الفناء في الله، وإيذان بحياة جديدة وشكل جديد للوجود". 
فلم تتطهر نوة بالماء وإنما بالنار إذ لم تجد طريق الخلاص الأرضي.