هزيمة الإسلام الثيوقراطي

لا ثيوقراطية في الإسلام، نظرية أثبتت عدم صدقها على مرّ التاريخ الإسلامي. كل تجارب الحكم ما بعد نهاية مرحلة الخلفاء الراشدين، الأربع، ما عدا استثناء أو استثناءين، لبس فيها الحكام عباءة الخلافة، بما تعنيه من تمثيل لله على الأرض، حتى جاز الرأي بعدم منازلتهم في الحكم أو حتى نقدهم، وكل خارج عنهم، إما مقتول أو لاجئ.

وعلى الرغم من توافق كل علماء المسلمين، السنّة، على عدم وجود ثيوقراطية في أصل الدين الإسلامي، إلا إن هذا الدين، في ممارسته، أُخذ بالتأويل إلى وجهة قدست الحاكم أو تكاد، وضمنت بقاءه وخنوع المحكومين، وما يهمنا هو ما يقع استلهامه من النص القرآني وتطبيقه.

هذا الإسلام الثيوقراطي، التأويلي، الشمولي، الذي اصطفي البشر، بأحكام البشر، وجعلهم مقدسين، قد انهزم، في القرن الواحد والعشرين، هزيمة نكراء. ولم يعد ممكنا، حاليا، لدى اغلب الشعوب قبوله أو السماح بوجوده. فهو أداة متطرفة، تصادر حق الإنسان، وتقتله لصالح بقاء الحاكم، أو لصالح بناء إمبراطوريته، في مخالفة صريحة لمقاصد الشريعة الإسلامية، التي تولي أولوية قصوى لحرية الإنسان.

الإسلام الثيوقراطي لا يحمل مشروعا واضحا، كل ما لديه حلم إقامة دولة الخلافة. دولة الخلافة، هذه، ومنذ أكثر من ألف عام، لم تظهر بعدُ ملامحها، مع إن آلاف المعارك أقيمت من اجلها، وملايين البشر قتلوا وسحلوا في سبيلها. ومن المؤكد بأنها لم تظهر ولن تظهر مطلقا لأسباب بسيطة، أهمها أن لا احد من مريديها ودعاتها يعرف ماهيتها وأسسها وقواعدها. أدبياتهم اقتصرت على الحديث عن كيفية إنشاء "الدولة الجغرافيا"، اعتمادا على السيف والدم. ويكفي الجزم بحتمية فشل استقرار "دولة الجغرافيا"، أينما أقيمت، حينما نعلم بان منظريها فقهاء، حتى وان تميزوا في الفقه، فلا علم لهم بالإدارة والاقتصاد، والاجتماع، والتجارة، والتربية، والثقافة، وكل العلوم الأخرى، التي خلقها الله، واكتشفها الإنسان لينير بها دربه. إنه حلم دولة بلا روح، وإنهم يقاتلون من أجل وهم.

وهذا الإسلام الثيوقراطي، لا مضامين واقعية له. يقتصر أصحابه على فترة حياة رسول الإسلام، محمد (ص). وما لم يتوافق، حرفيا، مع ما جاء في الأثر، منذ ألف وأربعمائة سنة، فهو بدعة، وكل بدعة في النار. مع انه إشكالات الحاضر تمثل أضعاف أضعاف ما شهده صدر الإسلام، اختلفت الاهتمامات، والمشاغل، والتداخلات مع المسلمين وغير المسلمين. لم يعد الزمن يشبه ذاك الزمن، ولا المكان يشبه المكان. لم يهتم الإسلام الثيوقراطي بكل هذا الخلاف، لان أولوية أولوياته إقامة الدولة، وكل خلاف بعد إنشاء الدولة سيحل بالسيف.

وأصحاب الإسلام الثيوقراطي لا لغة تفاوض لهم سوى الرصاص. فما من مكان حطوا فيه، في كل بقاع الأرض، إلا وأحدثوا خرابا، وأسالوا دماء قد حرم الله سيلانها الا بالحق. أليست "داعش" وأصولها واقع جازم لدمويتها؟ وشباب الصومال؟ وطالبان؟ وكل هذه الحركات التي تقتل بدم بارد، ولا تستحي في قتلها الذي يخالف رؤية الله للإنسان والكون! أصحاب الإسلام الثيوقراطي، يؤولون الدين، كما بدا لهم، ثم يقدمونه لنا على انه هو الدين، وكيف يمكن أن نتفاوض معهم، وهم أصحاب الحقيقة وخلفاء، وعلينا طاعتهم، وجزاء عدم الطاعة القتل؟

وليس من المبالغة في شيء حينما نقول: تكمن مأساة الشعوب العربية والإسلامية في كونها ضحية لهذا الإسلام الثيوقراطي، لفترة فاقت الألف عام. فقد تربت هذه الشعوب تحت إرهاب السيف، وقطع الرقاب، على الذل والتبعية والعبودية، وتأليه الحاكم، والتزلف إليه. لذلك فهم متأخرون جدا، حضاريا ونفسيا وثقافيا، عن بقية شعوب العالم، والمضحك بان فيهم قطعانا، بالملايين، لا زالت تؤمن بألوهية الحاكم، وحرمة الخروج عليه، إن ظلمهم أو استعبدهم. وهذا ما يؤكد بان مأساة العرب تكمن في وعيهم، ولا في المؤامرات الخارجية التي تحاك ضدهم.

وبرغم هزيمته الأخلاقية والإنسانية فان الإسلام الثيوقراطي لا زال يلقى دعما دوليا منقطع النظير، وذلك لسببين: الأول، ان بعض الدول ترى فيه الوسيلة المثلى للحفاظ على عروشها، فالثيوقراطيون يقتلون كل من يخرج عن الحاكم؛ والثاني، إن بعض الدول الاستعمارية تستعمله في تخريب الدول، وتقسيمها، والسيطرة على مقدراتها، وهو ما يحدث في العراق وسوريا واليمن وليبيا.

أخيرا، ثمة أمل في ظهور الإسلام الديمقراطي، الذي يؤول منتسبوه النص القرآني لصالح الإنسان. بعض التجارب الباهتة، في المغرب وتونس، ربما تنجح، وربما يقتلها مارد الإسلام الثيوقراطي، المتوحش، المنهزم أخلاقيا أينما حل.