هوامش على دفتر الشجون التعليمية

يدخل التلميذ المدرسة في مصر، نظريا، لكي يتعلم النظام. لا شيء أبعد من هذا.

ثمة إشارات عن النظام كمنحى إنساني جديرة بالاهتمام والتبصير بها ومن ثم التنويه عنها، منها ما قاله جورج سانتيانا "الفوضى.. اسم لأي نظام يولد ارتباكا في عقولنا"، وما سطره المؤرخ العبقري ول ديورانت صاحب موسوعة "قصة الحضارة" بالقول "في شبابي كنت اهتم كثيرا بالحرية، وكنت أقول أنني مستعد أن أموت من أجل حريتي؛ ولكنني في كهولتي أصبحت أهتم بالنظام قبل الحرية.. فقد توصلت إلى اكتشاف عظيم يثبت أن الحرية هي نتاج النظام". وأخيرا ما كتبه ديل كارنيجي "اكتشف النظام في الأشياء التي لا تجد فيها نظاما في النظرة الأولى". ولا شك أن هناك آلاف العبارات والإشارات التي تحرص على تكريس ثقافة النظام والحث على الالتزام به، حتى اهتمامنا بالحضور المدهش لرئيسة كرواتيا ضمن فعاليات كأس العالم التي أقيمت بروسيا الأكثر نظاما كان منظما، هذا الأمر الذي دفعني إلى طرح فكرة النظام لاسيما في حياتنا التعليمية.

وفكرة النظام ذاتها جعلتني أسترجع بعض الذكريات السعيد حقا والتي تحمل مشاهد زيارتي القصيرة العام الماضي لدبي الجميلة في أثناء مشاركتي في المؤتمر الدولي السادس للغة العربية والذي نظمه المجلس الدولي للغة العربية وكنت سعيد الحظ حينما علمت هاتفيا وإلكترونيا أيضا بأن بحثي الذي شاركت به قد فاز بالمركز الأول لكنني غادرت المدينة الجميلة قبيل إعلان النتيجة.

ومن أجمل ما رأيت في مدينة دبي الساحرة فعلا النظام، والأروع من هذا الجمال احترامه مثلما يحترم المواطنون والأجانب على السواء القانون، ولعلها الفطرة وليس العقاب هو ما جعلنا جميعا نسعى جاهدين للالتزام بالنظام السائد في كل مكان؛ في المطار وسيارات التاكسي والمتاجر الكبيرة جدا والشوارع والفنادق حتى في الغرف التي سكنا بها، وأيضا المطاعم وصالونات الحلاقة والتجميل الظاهري، أما الملاعب فهي فحق شيء خطير ومدهش وأصابتنا بالعجب لهذا النظام وتلك النظافة المدهشة. والعجيب أنني رأيت ضباط الشرطة فقط في المطار لحظة الوصول ولحظة المغادرة لكنني لم أشاهدهم حقا طيلة الأيام السبعة التي قضيتها في هذه المدينة، وربما اعتقد كل الناس بدبي أنهم شرطة أنفسهم أو المحافظون على النظام وتطبيقه.

ودبي التي تشاهدها من خلال قنوات الإمارات الفضائية هي نفسها التي يمكن أن تراها وتعاينها وليست محاولة إعلامية لتجميل الإمارة الجميلة الشابة، وربما هذا الإبداع المعماري الخلاب والمشاهد الخضراء بمساحاتها الرحبة انعكست على سلوك المواطنين فكانوا جزءا لا ينشطر من هذا الإبداع. وبالتأكيد النظام فطرة إنسانية صحيحة وإيجابية ولطالما سمعت عن تلك المزية منذ كنت صغيرا بالمدرسة الإنجيلية التي درست بها المرحلة الابتدائية، وكم من مفكر وناصح ورجل دين ومسئول كبير أو حتى صغير دغدغ مسامعنا بأهمية النظام وضرورته في حفظ المجتمعات الإنسانية، لكن لم يخبرنا كل هؤلاء عن كيفية التطبيق، فصار لكل واحد من قانونه الشخصي في تطبيق وتنفيذ النظام، وكانت النتيجة المخيبة رغم توقعها ظهور مرتشين ومفسدين وفاسدين ومخربي ملاعب، وأعمال بلطجة وبلادة إدارية أحيانا في تنفيذ وتطبيق اللوائح الوظيفية.

 رغم أن المصريين بالفطرة صناع حضارة ولا تغب بفكرك بعيدا عن هذه الحقيقة المطلقة فيمكنك أن تعود سريعا إلى كتاب العبقري المصري الدكتور سليم حسن في موسوعته كبيرة الحجم والفائدة والنفع "موسوعة مصر القديمة" لتدرك كم لهذه الحضارة المصرية من سبق وريادة في النظام واحترام القانون وتطبيقه بصورة فطرية.

ويمكنك أيضا أن تلجأ إلى الكتاب العمدة "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" للنابغة الدكتور جمال حمدان من أجل أن تفطن إلى حقيقة عبقرية هذا الشعب الأصيل في اختراع النظام وحفظه وتطبيقه بصورة قلما تتكرر في كل بلدان العالم، لكن الخيبة تأتي أحيانا من الأنظمة التعليمية التي لا يمكن توصيفها إلا بالإحباط وتفجير المشكلات وتصدير حالات الغموض للطلاب وأولياء الأمور والمعلمين طبعا وأخيرا لرجال التربية والتعليم أنفسهم.

وكم كنت أتمنى أن تقوم وزارة التربية والتعليم بتدريس كتاب واحد عبر تاريخها المعاصر للدكتور جمال حمدان بدلا من حفلات التطوير التي قامت بها الأنظمة التعليمية السابقة من خلال اختراع مسميات وشعارات تبدو كاذبة لأنها لم تعد بالنفع على جيل كامل أصبح أكثر احتفاء بمطربي المهرجانات وارتداء الملابس الممزقة والتشدق بألفاظ لا تليق بشعب عظيم.

لكن يبدو أن ملفات الإنجاز والتقويم الشامل والحقائب الإلكترونية والمدارس المتطورة والنظيفة والسعيدة وكل الأسماء والمسميات التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم على مبادراتها الكرنفالية لم تأت بمساعيها، وربما السبب هو نوايانا نحن أولياء الأمور والطلاب ورجال التعليم والمعلمين غير الطيبة.

وبالتأكيد لن تفكر وزارة التربية والتعليم في تدريس أحد كتب العبقري النابه الدكتور جمال حمدان في أية مرحلة تعليمية لأنه بالضرورة يشكل عبئا كبيرا على كاهلهم لاسيما وأن الوزارة مشغولة ومهمومة بالتابلت الرقمي وبتطبيق منظومة جديدة في التعليم.

وبمناسبة المنظومة التعليمية التي ستطبق بدءا من العام الدراسي المقبل ورغم كثرة المساجلات والمناقشات اليومية في الشارع والمترو ومحلات الطعام والملابس والفضائيات وكليات التربية وأيضا عبر وسائط التواصل الاجتماعي الإلكتروني مثل فيسبوك وتويتر والواتس آب، فإنني لست ضد المشروع المقترح أو معه أيضا، أنا فقط ضد كل طرح فكري لا يلتزم بالنظام.

فأنا لا أظن ولا أعتقد ولا أتخيل حتى أن وزارة التربية والتعليم كلفت أنفسها الجهد والمشقة في اتباع أولى عتبات النظام وهي أخذ ملحوظات من الطلاب والمعلمين المساكين في أوجه القصور بهذا النظام القائم تعليميا والذي من شأنه يتطلب التطوير والتعديل أو حتى النسف والإلغاء. فهؤلاء المعلمون على سبيل المثال الذين يذهبون ليل نهار إلى مدارسهم والتي قد تقع أحيانا في مناطق نائية هم أولى الناس بأخذ رأيهم في تطوير المنظومة التعليمية، وهؤلاء أيضا الذين يذهبون إلى أعمال الامتحانات والمراقبة في بلاد الله البعيدة ويحرصون على عدم التغيب أو التمارض أو الإضراب وإعلان العصيان التعليمي ولو بصورة صامتة هم الأحق بأن تأخذ الوزارة برأيهم في ضرورة التغيير والتعديل لكن هذا لم يحدث بالفعل.

ورغم أن وزارة التربية والتعليم اليوم تبذل مجهودا عاجلا في تبصير الطلاب والمعلمين والمهمومين بقضية التعليم باعتبارها قضية أمن قومي كما عرفنا منذ دخولنا كلية التربية منذ ربع قرن أنا ورفاق جيلي من الذين صاروا معلمين بعد ذلك، بالمنظومة التعليمية الجديدة، لكن مثلما كانت ملامح هذه المنظومة طارئة ومفاجئة وعاجلة لكافة المعنيين بالتعليم كانت الدعاية والتلميح والتصريح أيضا لهذه المنظومة أكثر فجأة وعجلة بغير نظام.

المسألة التي تعاني منها بعض الأنظمة التعليمية العربية هي النظام الذي هو ضد الفوضى، وليت وزارات التربية والتعليم التي تحرص على نظام القواعد المدرسية الاعتيادية اليومية كطابور الصباح والإذاعة المدرسية الباهتة والسطحية أحيانا والسخيفة معظم الوقت، وجدول الحصص الروتيني الشبه بفواتير الكهرباء والمياه والغاز، وجرس الفسحة التي لم تعد فسحة بل مساحة زمنية لممارسة أعمال الشغب بين الطلاب وأنفسهم أو بين الطلاب والمعلمين وما أخيب اللحظة حينما تكون بين أولياء الأمور وإدارات المدارس، أن تهتم قليلا بتكريس ثقافة النظام بصورة تطبيقية تشمل استطلاع رأي الطلاب والمعلمين في المشهد المدرسي القائم، ربما سيحدث يوما ما.