كيف تم تجريف العقل المصري

الاختراق السلفي أخطر ما أصاب المجتمع المصري. أوجهه عديدة، وبعضه لا يرى أصلا.
الغالبية العظمى تتبنى رأيا موحدا متشددا تعتبره عقيدة حتى لو كان خلافيا
انقسم الشارع في مصر إلى مسجدين، لأحدهما إمام أزهري بائس والآخر يؤمه سلفي لا ينفك عن الصياح

كان من المفترض أن يكون هذا المقال عن الحب وعن تاريخ عيد الحب في العالم وقصة عيد الحب المصري والجنازة التي حولها مصطفى أمين إلى عيد. ولكن تصادف أن قرأت تصريحا للشيخ أحمد ممدوح مدير إدارة الأبحاث الشرعية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية أن الشرع لا يمنع تخصيص يوم والاحتفال فيه بالحب طالما أن ذلك لا يتعارض مع تعاليم الدين واستوقفتني التعليقات على الخبر. فالبعض استنكر والبعض تطاول قائلا هذه ليست دار الإفتاء انما دار الكفتة والبعض أطلق على المفتي لقب الأنبا والبعض تساءل متى سنعود لعبادة الأصنام! تلى ذلك مباشرة الجدل الحاصل حول أحد التنويريين الذي أثار الجدل حول مسألة خلافية معروفة لكل دارس للشريعة. ومرة أخرى طالعت ردود أفعال الناس حول الأمر رافضين لمجرد القول بان في الأمر خلاف قديم ووصل الأمر بالتهديد بالقتل.

إن المتأمل في طريقة تفكير الغالبية من الناس وباستقراء آراءهم عن الدين وما يتصل به من مسائل حياتيه سيجد أن الغالبية العظمى تتبنى رأيا موحدا متشددا تعتبره عقيدة حتى لو كان خلافيا وستجد أن هذا الرأي غالبا تتبناه التيارات الدينية المتشددة وبالأخص التيار السلفي الذي هو نسخة منقحة من الوهابية. فمن أين أتى هذا الرأي الواحد المتشدد؟ وكيف تغلغل في ثنايا العقل المصري طاردا أي رأي آخر؟ ولماذا؟

عند الحديث عن ظاهرة التديين في القرن العشرين وما تلاه فإن كثير من المحللين يعزون ظاهرة الحنين للماضي والاحتماء بالتراث الى العديد من الاسباب والاخفاقات بعد سقوط الخلافة وما تلاها وحرب 48 وبعد هزيمة 67. ولكن أيا كانت اسباب ذلك التراجع الذي تجسد فعليا مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الدينية المتشددة وتمهد بعد ظهور دولة العلم والإيمان، ظل الأمر يسير بالتدريج نحو التشدد في الدين وبعد أن أصبحت الأرض ممهدة سائغة ظهر الانحدار السريع مع دخول الفكر الوهابي والذي لم تنتبه له الدولة المصرية ربما لأن ذلك التيار كان لا ينازعها السلطة ولا يحمل السلاح وربما لأسباب أخرى ولكن كان لذلك أبلغ الأثر على العقل المصري.

كان اختراقهم ممنهجا ومرتبا ومدعوما وسار في عدة مستويات متوازية. أولها، خطة اختراق الطبقات الدنيا والمتوسطة؛ وثانيها، خطة اختراق الطبقات العليا؛ وثالثها خطة السيطرة على مصادر المعرفة.

لم يكن اختراق الطبقات الدنيا والمتوسطة صعبا عليهم، فالناس في تلك الطبقات هي الأقرب لظهور التدين نظرا لمعاناتها الحياتية في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وبحثها عن معزى ومعين. وبالطبع فإن التدين الشكلي الذي يدعو إليه هذا التيار كان سهلا وفي متناول الجميع: ما عليك إلا أن تطلق لحيتك وتقصر جلبابك وترتدي زوجتك النقاب الأسود ولا تستمع إلى الغناء وسيكون كل شيء على ما يرام.

هكذا انقسم الشارع المصري في وقت الصلاة إلى مسجدين مختلفين، أحدهما يؤمه إمام أزهري بائس، والآخر إمام سلفي لا ينفك عن الصياح ولا يكتفي بالخطبة المعتادة بل يتبعها بدروس ما بعد الصلاة. وشيئا فشيئا ازدادت الحصر أمام مسجد السلفيين وانحسرت من أمام المسجد الآخر حتى قضت عليه. ومع دعمهم لدروس التقوية للطلاب ودروس التحفيظ للنساء وتوزيع الكتيبات الصغيرة والملصقات التي ملأت الشوارع والحافلات وأعمدة الإنارة والجدران في كل مكان تحمل عبارات قصيرة مركزة مثل "اللحية فرض"، "الغناء حرام"، "سينتهي الغلاء عندما تتحجب النساء"... الخ، حتى تعتادها الأعين ومن ثم تدخل في لاوعي الناظر إليها شيئا فشيئا حتى تترسخ وتصبح حقيقة مطلقة يتبناها كل واحد حتى لو لم يكن ينتمي إليهم ولا يشعر. ويكفي الآن أن تتنزه في الشارع بعد صلاة المغرب أو العشاء في مكان مثل باكوس بالاسكندرية لتجد طوفانا بشريا ذا سمت واحد يخرج من مساجد بعينها بعد الصلاة لتعرف إلى أين وصل تأثيرهم ونفوذهم. هذا بالإضافة لمن أصبح يتبنى فكرهم ولا ينتمي إليهم.

تجمع نسائي لحزب النور السلفي في القاهرة
النساء، القدرة الأهم في الاختراق

أما اختراق الطبقات العليا، ففتش عن المرأة. فقد بدأ بظهور دور تحفيظ القرآن النسائية في المناطق الراقية. وغالبا ما كانت القصة وراء ظهور الدار امرأة عادت مؤخرا من إحدى الدول الخليجية وتريد إنشاء مشروع تختم به حياتها بالمزيد من الحسنات. وكانت تلك الدور لا تصرح بأنها تتبع فكرا معينا إنما كان كل من تعمل بالدار تنتسب للدعوة السلفية والجو العام كله والكتب التي توزع هناك وشرائط الكاسيت تجبر المرء اجبارا على السمت السلفي وتبني الفكر السلفي حتى وإن لم يشعر. وقد كان ذلك سهلا لسببين. أولهما، أن تلك الأفكار غالبا تكون قد لامست عقلا لا يحمل قناعات دينية راسخة فكانت الغلبة للمعلومة الأولى التي دخلت إليه غالبا، وصار من الصعب اقناعه بغيرها. وقد سمعت بنفسي حوارا شيقا بلغة هي خليط من الفرنسية والعربية الركيكة بين سيدتين تحاول احداهما اقناع الأخرى بالانضمام اليهم لدراسة الدين والشرع، والأخرى تستفسر ما هو الشرع؟ وماذا تعني هذه الكلمة؟ أما السبب الثاني، فيكمن في الجو العام الذي تجد نفسك مسايرا اياه ومتجنبا مخالفته. ثم أصبحت الدروس الدينية تنعقد في أفخر الفيللات والبيوتات وتحولت النساء للبس العباءات وظهرت العباءات والملابس الإسلامية من أفخر الماركات. وقد كان هذا كافيا لهم. وقد سمعت ذات مرة مديرة لأحد البنوك الأجنبية الشهيرة وهي تشكو لأنها تشعر بالذنب لانها لا تستطيع الذهاب لعملها في البنك بالعباءة.

اتذكر أحد المشايخ على الفضائيات عندما سألوه عن الداعية الشاب الذي ظهر مؤخرا – أي في ذلك الوقت - مخترقا الطبقات العليا وسألوه ما حكم السماع له لأنه ليس ملتحيا ولا يتبع تيارهم. وقد أجاب الشيخ بأذكى إجابة على الاطلاق إذ قال أنه سعيد لظهور هذا الشاب لأنه يجذب الناس الى الدين فإذا أرادوا أن يعلموا عن دينهم أكثر فسوف يأتون إليه هو حتما.

نعم فقد كانوا هم مصدر المعرفة الدينية وقد كان هذا المحور الثالث.

قبل انتشار الإنترنت ودخوله إلى البيوت كانت شرائط الكاسيت لمشائخهم تباع على الأرصفة بأزهد الأثمان مع كتيبات في العقيدة وآداب اللباس والأذكار. ولما ظهرت الفضائيات ودخلت الأطباق الفضائية إلى البيوت لم تكن هناك قنوات دينية إلا وهم ملاكها وأصحابها. ثم من بعد دخول الانترنت الى كل بيت كانت كل المواقع الدينية والمنتديات الدينية ومنصات الفتوى لهم باستثناء القليل كان يتبع الإخوان المسلمين ومنتدى واحد تقريبا أنشأه طلبة الأزهر لأنفسهم وأيضا كانوا هم نجوم برنامج البال توك وحوارات الأديان فتجد أن أي محاولة للبحث عن معلومة دينية ستجد فتاواهم جاهزة. والأدهى من ذلك والأمر هو مأساة دور النشر. وقد رأيت بنفسي في درب الأتراك وما حوله معقل دور النشر هناك وهم مسيطرون عليه ينشرون كتبهم بل ويعيدون نشر كتب التراث مرة أخرى مع التنقيح أي التغيير والتبديل أحيانا وأحيانا أخرى بوضع الحواشي على الكتاب تدعم مذهبهم وتخطئ صاحب الكتاب.

وهكذا اكتملت السيطرة على مصادر المعرفة. ثم بعد أن كانوا يجهرون بمعاداة الأزهر ووصم عقيدته، قرروا اختراقه وبدأوا في الانضمام إليه. كانت البداية أولا بأقسام الحديث والعقيدة وقد رأيتهم في مطلع الالفية الثالثة يدرسون في كلية أصول الدين بجلابيبهم القصيرة ونعالهم المميز ومنهم من ترقى وأصبح استاذا ومعيدا بالكلية. ولا أعلم إلى أي مدى وصلت الآن سيطرتهم من داخل الجامعة بل إلى أين وصل نفوذهم داخل وزارة التربية والتعليم والصحة وغيرها.

وهكذا أصبح المجتمع المصري يحمل عقلا وهابيا صرفا ولا يدري عن التنوع ومسائل الخلاف وأصبح مؤمنا بالرأي الواحد والقول الواحد ويثور ويثأر إن حاول أحد أن يدعي أن أي أمر من الأمور يتسع لاختلاف الآراء أو أن به سعة ما، كما حدث مع الدكتور سعدالدين الهلالي الذي كان حريصا دائما على عرض جميع الآراء وبيان أن الأمور الخلافية تحمل السعة.

اسأل اليوم أي مار في الطريق عن حكم الغناء سيجيبك بأنه حرام حتى لو كان هذا الشخص يستمع للغناء بالفعل. وهكذا ابتليت الأمة المصرية بالتشوه الفكري الديني وتشويه تراثها وتزوير تاريخها بل أقول بتجريف عقول أبنائها.

وهكذا وجدتني بعد أن كنت أريد الكتابة عن الجنازة التي تحولت إلى عيد أكتب عن العيد الذي تحول إلى جنازة حدادا على العقل المصري وأنا أستمع إلى أم كلثوم تشدو: قول الحب نعمة مش خطية.