صفحات على هامش الثورة الروسية في 'حكاية إينيسا ولينين'
تتمحور رواية "العشق السري... حكاية إينيسَّا ولينين" للروائية الإيطالية أريتانا أرميني حول شخصية المناضلة البلشفية الغائبة أو لنقل المغَيبة عن تاريخ الثورة الروسية عام 1917 لما قد يسببه وجودها من حساسية تسقط شيئًا من الهيبة عن واحدة من أقوى الشخصيات المؤثرة في العالم وعلى مدى عقود، فقد نجحت تلك الثورة في تغيير الخارطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بترسيخ أفكار وأهداف وتوجهات في أكبر وحدة شهدتها العديد من البلدان بما عُرف الاتحاد السوفيتي وترامت أصداؤها إلى كل أصقاع الأرض، وشخصية مثل هذه في عرف رجال السياسة لا بد أن يكون لها حصانة ضد الأهواء الذاتية ومشاعر الحب خارج إطار مؤسسة الزواج التقليدي، مثلها مثل لباس الكهنوت الديني في مجتمعات أخرى لا تعترف إلا بما هو مفروض بعيدًا عما هو واقعي ويمكن حدوثه لدى كل إنسان، أما شخصية إينيسَّا المتوارية خلف الكواليس، رغم ما كان لها من مكانة داخل الحزب قبل وبعد الثورة، فكانت هذه الرواية بمثابة رد اعتبار للمرأة الثورية التي تحملت وشهدت الكثير ما بين حلم وعشق وانكسار لم سقط من أوراق التاريخ الساعية غالبًا نحو تجسيد حقائق محددة ومتفق عليها، خاصةً عندما يكون ذلك التاريخ موَجهًا، حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لما ظلت تمتلكه شخصية فلاديمير إيليتش أوليانوف/ لينين من سطوة قد تصل إلى حد القداسة لدى الكثيرين، رد اعتبار جاء متأخرًا جدًا، كما يحدث بالنسبة إلى الكثير من الشخصيات التي تم تهميشها لسببٍ أو لآخر حتى يحدث ويعاد اكتشافها من جديد لتكون مثل العنوان الرئيس الذي تراكم عليه الكثير من الغبار كي لا يظل إلا ما اعتدنا قراءته من نمطية تتجنب الكشف عن المتواري في أفق الإنجازات الكبرى.
إينيسَّا... البرجوازية المتمردة
شهدت هذه الشخصية الثورية تحولات كثيرة ومتباينة جعلت منها بشكلٍ من الأشكال انعكاسًا للعديد من التحولات الفكرية والثقافية والاجتماعية في بداية القرن العشرين، بدءًا من زواجها من أحد أبناء العوائل الرأسمالية الكبرى، ذات التوجهات الاشتراكية التي عرَّضتها إلى الرقابة المستمرة من قبَل البوليس القيصري، إلا أن ذلك لم يرضِ رغبتها الجامحة في التمرد على المألوف إلى حد وقوعها في أسر عشق شقيق زوجها الأصغر وإنجابها منه أصغر أبنائها، ذلك العشق الذي تفَهمه زوجها فلم يسمح أن يكون سبب انفصاله عنها، وكأن تلك المرأة كانت تمتلك تأثيرًا خاصًا بها على كل المحيطين بها بما تمتلك من رؤى وأفكار خارجة عن المألوف تجعل من الحب والمشاعر من أولويات اهتماماتها، حتى وهي تحضر اجتماعات وأهم منتديات الحزب الاشتراكي الديمقراطي التي وجدت فيه ضالتها لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية، فقد كانت تسعى من خلال ذلك، وقبل كل شيء آخر، إلى إعطاء المرأة حقوقها في العمل والمشاركة السياسية... والحب الذي تقرره رغبات الطرفين، لا بموجب النظرة الاجتماعية التقليدية التي تفرض الشكل الاجتماعي المتعارف عليه أمام الناس وفي ذات الوقت تبيح الدعارة المحتجبة عن العيون، تلك الازدواجية ظلت شغلها الشاغل منذ بدء مشوارها النضالي المتنقل ما بين المعتقلات ومدن النفي وبلاد الغربة، متأثرة بما قرأت من روايات بدأت تتطرق إلى دواخل المرأة في وقت كان لا يزال مبكرًا جدًا لطرح مثل هذه المواضيع داخل أروقة الحزب الساعي من أجل تحقيق الثورة وإسقاط النظام القيصري بكل ما عُرف عنه من رجعية.
أكثر ما واجهت إينيسَّا من انتقادات، حتى من قبَل حبيبها زعيم الثورة، أنها تتناول في أطروحاتها قضايا ذاتية لا تنصب في خدمة المجتمع الاشتراكي المعني بتحقيق التوزيع العادل للثروة من أجل القضاء على سيطرة رأس المال سعيًا للوصول إلى المرحلة الشيوعية... أما إن تعلق الأمر بأهم شخصية داخل الحزب والبلاد فهذا ما يصعب التعامل معه بأي شكلٍ من الأشكال، خاصة وأنه يحمل على كاهله مسؤولية أحلام وأمنيات الرفاق، والملايين من الطبقة البروليتارية في أنحاء العالم، لكن يصعب على شخصية مثل لينين، مهما كانت عليه من صلابة وحِدة، عدم الانجذاب لامرأة في فتنة وثقافة وقوة إينيسَّا التي استطاعت التخلي عن الاستقرار الأسري مع أولادها كي تكون واحدة من المشرَّدين في باريس، حيث التقت وانبهرت بقدرته على لفت انتباه الحضور لأفكاره، في الفترة التي لم تلتئم جراحها بعد إثر فقدان حبيبها بداء السُل، فبدت لها شخصية الرجل الثوري المعتد بآرائه مهما تزايد عدد الخصوم مثل بطل إحدى الروايات التي عشقت الحلم من خلالها، ولذا كان الانجذاب المتبادل بينهما أقوى من شرارة كل ثورات الدنيا، إلا أنه لا بد أن يبقى في طي الكتمان، خاصة وأن القائد الثوري كان متزوجًا من ناديا المرأة التي وهبت حياتها من أجل خدمة القضية والاعتناء بزوجها كي ينصرف إلى أفكاره الثورية، حتى لو نست دورها كامرأة في حياة الرجل الأول داخل الحزب، بينما كانت إينيسَّا تبدو مثل نسمة هواء صافية ومتحررة من أي قيود، ورغم التزامها الأيديولوجي الصارم فقد ظلت تحافظ على شيء من البرجوازية التي تنتمي إليها ولو من خلال الفساتين الأنيقة التي ترتديها والقبعات المزركشة البسيطة التي تضعها على رأسها، وأيضًا المعزوفات التي تعزفها على البيانو، والموسيقى بشكل عام من ضمن الترف البرجوازي الذي لا يحبه لينين، إلا إنه كان يرغب بالاستماع إلى إحدى معزوفات بيتهوفن من صديقة زوجته وأكثر المقربين منه داخل الحزب، ورغم تلك الصداقة وذلك التقارب الذي يفرض شيئًا من الرقابة على تصرفات كل منهما استطاعت الشابة الثورية المتمردة أن تكون حبيبة الرجل الذي نذر حياته من أجل تجسيد الأفكار الماركسية كواقع ملموس في حياة الشعوب، لا الشعب الروسي فحسب، مع أن الحب لا ينسجم مع إيقاع الحلم المنشود.
ديكتاتورية الحكم وحرية العشق
من يقرأ رواية "العشق السري..." يجد في شخصية إينيسَّا شيئًا من جوهر الصراع الخفي بين المناضل الثوري والمسؤول الحزبي والسياسي المتحكم بهيكلية بلادٍ بأسرها، فرغم أنها صارت من أعضاء مجلس الدوما، ومن ضمن الشخصيات البارزة والمقَربة من الكرملين، إلى حد أنها صارت تعيش ضمن دائرة الطبقة الحاكمة كي تكون على مقربة من مكتب لينين، رغم هذا ورغم أنها صارت مندوبة في المؤتمر السادس للحزب ودفاعها الشرس عن قرارات لينين ومواقفه التي أنشأت الكثير من الصدامات بين الرفاق، إلا أنها ظلت تحتفظ بروح التحدي المتمثلة في عشقها لزعيم الثورة الذي يشعر بمراقبة الجميع وإفلات القبضة الحديدية من بين يديه إلى حد أنه يخشى ألا تنفذ أوامره في زخم الاضطرابات والحرب المستعرة داخل البلاد، وفي ذات الوقت أخذ يسيطر عليها شعور بالخواء، بخبو جذوات الحلم في وهج الثورة المتأرجحة ما بين قبول ورفض وحركات تمرد، وما بين قرب وبعد وحنو وجفاء... خواء واضطراب ما بين العام والخاص.
في خضم تلك الأحداث المتلاحقة، ولأنها تحرص وسط كل تلك المتغيرات أن تبقى مستقلة سياسيًا، ولو ضمن دائرة الحزب الحاكم، اختارت أن تنضم إلى "اليسار الشيوعي" الأمر الذي لم يعتد لينين قبوله أو حتى التعامل معه، إلا أنه يعرف في النهاية أنها لن تحاول إيذاءه مثل منافسيه وخصومه المتربصين له على الدوام، والذين استطاع التخلص منهم تباعًا، فهي تبقي المرأة الوحيدة التي استطاعت أن تذيب بعض جمود المشاعر داخله، رغم ما ظل يتملكه من فظاظة جعلته يتخذ موقفًا إزاء المرأة بشكلٍ عام، وهكذا ظلت علاقتهما ما بين جزرٍ ومد، حتى ضمن الأطروحات التي قدَمتها مؤلفاتها التي وجه إليها الكثير من الانتقادات اللاذعة، والتي تعكس اختلاف شخصيتيّ كل منهما بحكم التفاوت الاجتماعي والثقافي بينهما، رغم انتمائهما إلى ذات الأيديولوجية الثورية، ورغم سنوات النضال واغتراب المنافي... فأي فكرة وعقيدة لا يمكن أن تُخضع الجميع إلى ذات القالب (الشمولي) وإن امتثل كافة الرفاق والقادة الثوريين إلى ذات المبادئ والتوجهات، وهذا ما واجهه لينين وإينيسَّا معًا، تلك الازدواجية بين الواقع والحلم الذي صار أشبه برفرفة عصفور داخل أروقة السلطة الصارمة، كما صار حتى الحاكم الأعلى للبلاد أسير معتقل حكمه الذي ظل ذا نهج رجعي بعض الشيء بالنسبة إلى المرأة الحالمة التي أخذت شيئًا فشيئًا ترفرف خارج قصور الديكتاتورية الثورية التي ساندتها لسنوات طويلة أخذت من شبابها واستقرارها وعطائها الفكري الكثير، رغم كل ما استطاعت إنجازه وحققته من مكتسبات وما قدمته، سواء عبر الدعم المادي، عن طريق زوجها في الغالب، أو مشاركاتها في المنتديات الاشتراكية العالمية...
نهاية رحلة الثورة
"يخيل إليّ أنني أصبحت أمشي وسط الناس وأنا أحاول أني أخفي عنهم سري، أعني سر كوني ميتة تمشي وسط الأحياء، وممثلة ملّت من كل شيء ولكنها على الرغم من ذلك فهي مضطرة لأن تعيد ليس فقط نفس المشاهد ذاتها لمئات المرات، ولكن حتى الكلمات التي كنت استعملها في الماضي القريب، حينما كنتُ ضاجة بالمشاعر والأحاسيس الجميلة" ص 259
جدلية المناضل العصي على التدجين تتصاعد بين جنبات النص الذي يتخذ جانبًا توثيقيًا وصحافيًا إلى حد ما، دون المساس بجوهر الجنس الروائي، فالمقطع أعلاه منقول من مذكرات إينيسَّا التي لم تأخذ حقها في القراءة والتحليل والدراسة شأن مذكرات الآخرين من صفوة القادة في الحزب، مع أنها سلطت الضوء على مرحلة هامة من التاريخ الروسي الحديث بشكلٍ عام، لا تاريخ الثورة البلشفية فحسب، ربما لأنها تعكس وجهًا من أوجه الثورة الذي يرغب الكثيرون مواراته عن فكر وثقافة العامة، فالمناضل الثوري لا يمكن أن يمر بأزمات نفسية وأيديولوجية تعَبر عن حالة من الوهن الذي قد يعتري الثورة بعد رفع شعاراتها في الآفاق، على العكس تمامًا، لا بد أن تسود الروح الحماسية في كل مرافق الحياة من أجل خلق المجتمع الاشتراكي الذي استنزف أعمارًا من الحلم والنضال والتضحيات... إلا أن شخصية المرأة العاشقة هنا واجهت أزمة ثورية ووجودية أفضت إلى موت الروح قبل موت الجسد جراء الإصابة بمرض الكوليرا، فقد أدركها شعورُ حاد بالاغتراب عن كل ما كرست حياتها لأجله، ربما لأنها عشقت حلم الثورة أكثر من الثورة ذاتها، عشقت المناضل أكثر من المسؤول ورجل الدولة المقَيد داخل مكتبه بمهام الحكم والقرارات التي لا بد له من اتخاذها كي يحافظ على مكتسبات الدولة الجديدة، بينما ظلت هي مسكونة برومانسية المرأة التي قد ترمز بشكلٍ من الأشكال إلى رومانسية الثورة في مرحلة شهدت الكثير من الصراعات والانتقادات بين أركان الحزب الواحد من جهة وبين أحزاب وتيارات أخرى من جهة أخرى، هذا غير نقمة أطراف عديدة من الشعب عانت الظلم من العهد الجديد، وما كانت محاولة اغتيال لينين في السنوات الأولى من قيام الثورة إلا من إفرازات تلك الفترة التي جعلت إينيسَّا تعيش أوج الصراع بين العزلة السيادية والرغبة في الاندماج مع العامة أكثر فأكثر.
لعل لينين كان يتفهم كل ذلك، بلا أن تكون له القدرة على مشاركتها ذلك التسكع، بمعناه المادي والفكري، خاصة وأن هوَس السلطة والرغبة في قيادة أمة وفق رؤاه الثورية كان قد تمكن منه وحذا به كي يصنع مجده من خلال مجد بلاده التي اغترب عنها طويلًا وما عاد بوسعه تجرع المزيد من معاناة ذلك الاغتراب، وبهذا تكون حبيبته أشبه بالمرآة التي يود رؤيتها والاحتجاب عنها في آنٍ واحد.
صراع مرَكب أوجدته إينيسًا داخل زعيم الأمة، ربما لم ينتهِ بوفاتها، بل على العكس، ظل يتصاعد مع تتابع الأحداث التي شهدها الاتحاد الوليد، بمنأى عن تجربتها الأخيرة في المصحة المعزولة التي قصدتها من أجل الاستشفاء على خطوط جبهات القتال، حيث شهدت الجوع والمزيد من البرد، لأن شقتها على مقربة من الكرملين لم تكن منفلتة مما يعانيه الشعب من فاقة، مثلها مثل أي مواطن بسيط يسعى للبحث عن قوت يومه، ورغم قسوة تلك التجربة العاصفة بكل أنحاء البلاد إلا أنها جعلتها تستنشق بعض الشيء نسائم الثورة الحقيقية التي نشدتها منذ بواكير الشباب، ثورة المرأة البرجوازية التي سعت من أجل حقوق المرأة بشكلٍ عام، كي تكون مجرد أداة للمتعة لدى الرجال في بيوت الدعارة، ولا وسيلة للإنجاب والمحافظة على النسل، ولا حتى أن تكون أقل من الرجل لدى الحمل فتُمنع من الدخول إلى الكنيسة، الأمر الذي واجهته من قبل وكان سبيلها إلى الإلحاد، لأنها كانت دومًا تبحث عن التحرر من الإحساس بالدونية التي فرضتها قيود المجتمع والكهنوت الديني، كي تواجه فيما بعد (الكهنوت السياسي) الذي غرَبها عن حبيبها وكذلك كل الأحلام التي باعدت بينها وبين أبنائها، ولذا ظلت سيرتها تمثل أيقونة الحب والثورة والحرية، رغم نكران المغالين في التطرف السياسي، مما يدعونا إلى إعادة قراءة التاريخ وفق رؤى وتوجهات جديدة وبعيدة عن سدنة الانغلاق الفكري والثقافي في كل عهدٍ ومكان.