فلسطين في مدوّنة 'بنت البحر' حفيظة قاره بيبان
تقول الكاتبة والناشرة أمينة رزيق: "تعيد لنا بنت البحر ثقتنا بالسّرد طريقا للخلاص"(1)، ويقول الناقد د. محمّد القاضي: "إنّ حفيظة تراوح بين الضّمائ: المتكلّم والمخاطب والغائب. وتراوح بين الرّؤى: داخليّة، متعدّدة وخارجيّة. وتراوح بين الأشكال والأجناس: السّرد التّاريخي والمونولوج والمذكّرات والاعترافات والقصاصات. وتراوح بين الأزمنة: الماضي والحاضر والمستقبل." (2)
إنّ هذا الحكم النّقدي ينطبق على مدوّنة حفيظة قاره بيبان المتنوّعة: رواية وقصصا قصيرة ومقالات اعترافات، وحتّى نتعمّق أكثر في عالم هذه الأديبة واهتمامها في سردها بفلسطين، منذ 1982 وإلى 2024 (3)، ننتبه إلى اعترافاتها عساها تنير درب القارئ، وتفسّر له سراديب عالمها السّرديّ: "القلم إن ننحته من أضلاعنا، لا قدرة له على أن يختار. التّجربة اللّعينة هي الّتي تختارنا وتدفع القلم ليرسم أوشامه"(4) وتضيف: "كان الخطر المحدق بي -مهما تخفّى وتوارى- هو دافعي للكتابة"(5) "فإذا الكلمة هي السّلاح"(6) وتواصل: "إنّي بكلمتي أقاوم الخطر، أنجو من الموت وأنقذ عالمي."(7)
أمّا عن شكل الكتابة فإنّها تعترف ودون تردّد: "ولكنّني أضيق بقيود الشّكل. ومع ذلك، أظل أكتب، تقودني تلك الطّاقة المتفجّرة داخلي، دون أن أحفل بقيود الأشكال والأجناس، لا يهمّني غير الصّدق وجماليّة الكتابة الّتي تطهّرني من أدران واقعي، غايتي الانعتاق إلى أن اتّضح الدّرب."(8) وتختم متسائلة: "أليست الكتابة الإبداعيّة مرآة لهذا العالم وصدى لإيقاعه؟"(9)
(1)الغلاف الخلفي لرواية "نساء هيبو وليال عشر"، نشر الأمينة للنشر والتوزيع، ط1 تونس/2024
(2)من مقدّمة رواية "دروب الفرار" دار سيراس للنشر، تونس 2003، ص12
(3)"ليلة من ألف ليلة عربيّة" ضمن مجموعة "في ظلمة النّور" منشورات قصص 17/1993 ص105، مذيّلة بتاريخ أوت 1982، ونشرت من جديد في "مرايا الأنفاق" 2024 ص159- وآخر ما كتبت عن فلسطين: "بئرنا" الطريق الثقافي/العدد 137، العراق 18 مارس 2024، صوتنا"، و"يوميّات حلا"-مجلة العربي-عدد ماي 2024.
(4)أجمل الفضائح، الأطلسيّة للنّشر، تونس 2006 ص74.
(5)ن م وص
(6) ن م وص
(7) ن م وص
(8) ن م ص 75
(9)ن م ص 77
إنّ الحضور الطّاغي لفلسطين ومعاناة الفلسطينيّين من النّكبة عام 1948 إلى غزة، طوفان الأقصى 2023-2024، لازمة واضحة في ما كتبت، وذلك ما يدفع الدّارس لسردها إلى توخّي نسق تاريخي لتفحّص النّصوص وتقييمها نقديّا، فنصوصها، تنوس بين الذّاتي والموضوعي، وتتأرجح بين الواقع والتاريخ، أو بين الماضي والحاضر، ويتراوح الحضور الفلسطيني كثيفا كما في رواية "العراء"، أو عابرا، على نحو ما ورد في رواية "دروب الفرار" إلى جانب تخصيص قصص قصيرة جوهرها معاناة الإنسان في فلسطين.
في قصّة "ليلة من ألف ليلة عربيّة" يشتدّ القصف والحصار على المدينة ويُفقد الطّعام لإغاثة جدّ عاجز يلازم الفراش، وتظلّ حفيدته تبحث عن حبيبها "باسل" عساه ينقذها وجدَّها: "ننتظر الاحتراق بين النّيران المندلعة أو الانسحاق تحت سقفنا الباقي، تحت وابل القنابل، أو سقوطنا بطلق رصاص مباشر من النّافذة الوحيدة الباقية، وقد انطفأ فينا كلّ إحساس إنسانيّ ممكن، غير الإحساس بالقهر المدمّر وتوقّع الموت في كلّ لحظة."(10) ويبقى مع ذلك أمل الإنقاذ على يد باسل الفدائيّ، إذ تراه بعين الذّاكرة: "و يدُك ترتفع عالية بعلامة النّصر، ورشّاشك في يدك وعيناك المتوقّدتان، يمتدّ نظرهما إلى الأفق البعيد متلهّفا، صارما، عاشقا قاسيا، والأفق البعيد يبقى نائيا بعيدا، وأنت وحدك."(11) وتقتحم الرّوائيّة، نسق الأحداث وفي تلافيف الحوار الباطنيّ، لتعلن إدانتها، لكلّ من تخاذل في فكّ الحصار عن بيروت صيف 1982: "قد أسقط برصاصة ما، ويطلع الصّباح على جثّة امرأة سقطت في ليلة هادئة نسبيّا... في مدينة تُركت للحصار الأعمى الطّويل... تحرق عينيَّ دمعتا العار الذّي نعيشه... العار يا باسل، هو الصّفة الوحيدة التّي يمكن أن تُرفع فوق رؤوسنا... العار يقتلنا، أكثر ممّا ستقتلنا قنابلهم ومتفجّراتهم."(12)
تمثّل روايات قاره بيبان الثّلاث (13)، نسقا متكاملا من القضايا المتواترة في تونس وفي العالم العربي منذ 1978 وإلى عام 2024، وإذا تجاوزنا تحليلها للشّخصيّات وما تمثّله الوشائج فيها وما يربط بينها من عواطف، وما يحرّكها من قيم، فإنّ الشّاغل السّياسي يحتلّ حيّزا بارزا، فتشير على سبيل المثال إلى: الحوض المنجمي وأحداثه، مجال الحرّيّات في ظلّ نظام بوليسي، التّطرّف الدّيني، الإرهاب، التّسفير، الاغتيالات السّياسيّة.
(10)مرايا الأنفاق، ص161
(11)ن م ص162
(12)ن م ص164، والإحالة واضحة في هذه القصّة على حصار بيروت 1982، ومطاردة المقاومة الفلسطينيّة
(13)"دروب الفرار" تونس 2003، دمشق 2006، "العراء"، تونس 2012، "نساء هيبو وليال عشر"، تونس 2024
أحداث جبل الشعانبي، تفجيرات شارع محمد الخامس الإرهابيّة، ولكنّ القضيّة الأساسيّة والشّاغل الذّي عالجته أكثر من غيره في سردها على مرّ السّنين ومنحته حيّزا متفاوتا:
موضوع فلسطين، الأمر الذّي جعل رشاد أبو شاور، الروائي الفلسطيني، يقول عن رواية العراء: "ربّما تكون هذه الرّواية، هي أوّل رواية تونسيّة تُعنى بالموضوع الفلسطيني... هذا مع موضوعها القويّ، المؤثّر، الذّكيّ. الرّواية مؤثّرة، موجعة، فاجعة..."(14)
وعندما ننظر في رواية "دروب الفرار" (2003) ومع ما عالجته من قضايا تونسيّة، لا تترك الفرصة تمرّ دون الإشارة إلى فلسطين ومعاناة الفلسطينيّين، فالشّخصيّة الرّئيسيّة في الرّواية، "شرود"، تُفاجأ من خلال شاشة التّلفزيون، بصورة بنت فلسطينيّة تذكّرها بصديقتها منذ عشر سنوات خلت ليلى رفيقةً في المدرسة: "حدّثتها عن فلسطين التّي لا تعرفها، عن أبيها الذّي طرده المُحتلّون من غزّة وهي رضيعة، عن القطر العربيّ الذّي آواهم ثمّ دعاهم للرّحيل، عن أتعاب الرحّيل من قطر لقطر، حتّى حلّت عائلتها أخيرا بتونس لتصبح رفيقة لها في القسم سنتين."(15) وتروي شرود عن طريق تداعي الذّكريات مأساة ليلى وعائلتها وتركّز على مشهد التّفجيرات في بيروت: "تفتح الجرح الغائر، تعيد له حرقته وناره، وها هي ريح الجاهلية القادمة توقظ الذكرى ! تصفعها بصور الأطفال الموؤودين في أقصى الشّرق، بخراب العواصم العربية المتتالية السقوط."(16)
أمّا رواية "العراء"، فهي رواية فلسطين دون منازع، وقد تجاوزت فيها الكاتبة تلك اللّوحات المبثوثة في أعمالها وركّزت فيها على معاناة الفلسطينيّين، بُنيت الرّواية على محورين متوازيين: عراء النّفس البشريّة في مواجهة مرض السّرطان بمختلف مراحله، وعراء البلدان العربيّة في مواجهة سرطان الصّهيونيّة، فإذا العراء، تعرية وفضح للتّخاذل وتنديد بالاستسلام.
شخصيّات الرّواية الرّئيسيّة: "دجلة"، كاتبة تونسيّة، وزوجها حسام، مدرّب رياضي ومعلّم، وغسّان سلمان، شاعر فلسطيني، مقاوم رُحّل من بيروت صيف 1982. تعرّف إلى دجلة بواسطة خليل، شاعر عراقي، لاجئ سياسي، وتتنوّع مستويات السّرد من خطاب مباشر إلى استرجاع خطاب من الذّاكرة فإلى حوار باطنيّ وتأمّلات، ولئن كانت مستويات الوصف دقيقة ومؤثّرة في القارئ، فيما تعلّق بالعواطف والأحاسيس، فإنّنا نتجاوز ما في الرّواية من تفاصيل، لنقف عند كلّ ما تعلّق بفلسطين، فمنذ بداية الرّواية، يرسم غسّان لوحة من ذاكرة طفل فلسطينيّ، ينعم بالطّبيعة وحنان الأمّ ودعة العيش بين أحضان الجنّةالمفقودة، لكن جاءت: "عصابات غريبة هجمت بسرعة مرعبة... جراد أسود انتشر في الأفق... على الطّريق أخذوا يقفزون من شاحنة قدمت هادرة... انتشروا مُصوّبين البنادق إلى الفلّاحين العائدين إلى بيوتهم صارخين (...) اقتلوا الفلسطينيّين وشرّدوهم..."(17)
(14)ظهر غلاف رواية "العراء"-نقوش عربية-القدس العربي 2012"
(15)دروب الفرار، ص 136
(16)ن م ص173
ويمتدّ وصف مأساة التّهجير القسريّ على صفحات، تحيل على مذبحة "دير ياسين"، وتحتفظ ذاكرة غسّان طفلا، بأولى جرائم الصّهيونيّة عام 1948: "و نحن نُرحّل ونبتعد في شاحنة عسكريّة مع آخرين وفوهات البنادق حولنا(...) جموع تضطرب على الشّاطئ، عساكر ومراكب تلوّح بالرّحيل، وصوت محذّر ناعق في مكبّر الصّوت، ورصاص متفرّق يتردّد صداه في الآفاق."(18) إنّ وصف حفيظة قاره بيبان لمأساة التّهجير القسري للشّعب الفلسطيني، يكاد لا يعادله شبيه باستثناء ما كتبته الرّوائيّة المصريّة، "رضوى عاشور" في روايتها "الطّنطوريّة"...
لقد جاء غسّان "شاعر الأرض السّليبة" على ظهر الباخرة اليونانية التّي نقلت الفدائيّين الفلسطينيّين من بيروت إلى تونس بعد قرار التّرحيل، ولا تتردّد الرّوائيّة في إبداء موقف نقديّ تعليقا على شعر غسّان، مُتخيّلة مشهدا كاملا تعرض من خلاله حُكمها: "كان الشّاعر قد أقبل على المنصّة، وارتفع صوته جارحا، وهو يقرأ قصائد من ديوانه الأخير، عن بلد الثّورة الذّي تحوّل إلى بلد القتل المباح على الأرصفة."(19) بل تضيف في نفس السّياق: "وقد أخذنا الشّاعر إلى خراب المدن، وانتحار العرب الجماعي، مُعلنا، هذا زمن لا عزاء فيه لمشرق أو مغرب."(19)
ومن قبيل التّنويع الفنّيّ، توظّف الرّوائيّة، الحلم لخدمة القضيّة انطلاقا ممّا تخلّف بذاكرتها وهي تشاهد الأخبار على شاشة التّلفزيون، فتصف للقارئ مشهد طفل من "جباليا"، بُترت رجله، يعاين "بيته الذّي هدّته جرّافات الاحتلال الإسرائيلي (...) كانت جرّافة عملاقة تغرس أنيابها في الأرض، تفترس الأشجار، بعد أن هدّت السّور وخرّبت الدّار..."(20)، ولعلّ الحال في فلسطين لا يختلف كثيرا عمّا يحدث في العالم العربيّ: "طالعتني عناوين عالمنا الفاجعة: مذابح واغتيالات في الجزائر... طائرات تقصف المدنيّين في جنين... عشرات الشّهداء... تواصل الحرب الأهليّة في لبنان..."(21)
(17)"العراء"، ص17
(18)ن.م ص18
(19)ن م ص27
(20)ن م ص38
(21)ن.م.ص44
تتوسّل الرّوائيّة بمختلف الطّرق لخدمة قضيّتها فإلى جانب ما تشاهده عبر الشّاشة وما تطالعه في الصّحف، تجعل الرّاديو مدخلا لمتابعة فداحة مأساة الشّاعر الفلسطينيّ المُهجّر، وهو يستعرض مع المذيعة جوانب ممّا علق بذاكرته، ومدى نأثّره بالبحر ممزّقا بين حيفا وقرطاج: "تأخذني الرّيح إلى الآفاق البعيد حيث تركت طفولتي، مرّة واحدة وإلى الأبد... أمّي وبيتي وفراخي، وخروفي السّارح بين الأشجار..."(22)، وتستبدّ به الذّكرى ولمّا يبلغ العشرين من عمره، عندما اشتاق للبحر في حيفا: "فجأة ضجّ البحر حواليّ. سُلّطت الكشّافات على زورقي وهجمت زوارق المراقبة تحيط بي. فتّشوني. لم يكن معي سلاح. جرّوني إلى الشّاطئ مردّدين: ماذا جئت تفعل هنا؟ قلت إنّي اشتقت لحيفا لمدينتي. اشتقت للشّاطئ الذّي كنت أنطّ على رمله مع رفاقي... لم يصدّقوني... رموا بي في أحد السّجون، خمس سنوات، زهرة العمر. طردوني بعدها خارج الحدود، مهدّدين بالقتل إن فكّرت يوما بالعودة إلى... إسرائيل."(23)، ولا تقف المأساة عند هذا الحدّ، إذ تروي السّاردة على لسان غسّان، عقاب صيّاد، عاشق لوطنه، كان يجلس كلّ يوم أمام البحر على صخرة في النّاقورة، عند الغروب، تجرّأ ذات يوم وأبحر بقاربه الصّغير من صور إلى حيفا، أُلقي عليه القبض وعُذّب بطريقة بشعة حتّى الموت، وهم يقهقهون شامتين. ويقيّم غسّان ما آل إليه الوضع بعد عشرين سنة من حادثة سجنه: "التّلال هناك لم تعد خضراء، وبيوتنا الأرضيّة البسيطة المحفوفة بالشّجر المثمر الظّليل امّحت، ارتفعت مكانها عمارات عالية متلاصقة، بدت كسرطان غريب، سريع الانتشار، امتدّ يأكل الأرض بشراهة..."(24)
وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا الفصل الموسوم بالتّيه في رواية "العراء"(ص58-ص71) من أقوى النّصوص في رسم المأساة: "قطعا، نملك التّاريخ والذّاكرة. ولكن حتّى الذّاكرة يحاولون سرقتها بشتّى الطّرق."(25)
"إنّ التّاريخ تسجّله الوثائق، ولكن تحييه الشّهادات" كما تقول صاحبة الرّواية، وهكذا يستعرض غسّان عن طريق الذّكريات وتداعياتها ملحمة بيروت 82: "عيون غربان عملاقة ظلّت في متاهة الماء ترقبنا من بعيد، البوارج الأمريكيّة المتابعة للألف ومائة مقاتل فلسطينيّ، المُهجّرين في "السول فرين" من بيروت إلى تونس."(26) ويرجع أكثر إلى الوراء، وحلم العودة إلى الأرض يتلاشى: "كبرت وابتعدنا أكثر عن الوطن" وصوت فيروز يغنّي:... سنرجع يوما إلى حيّنا.. وفي فجر اليوم السّابع، السّبت 28 أغسطس 1982، أطلّت الأرض، ولاحت من بعيد البيوت البيضاء، تحت سماء شديدة الصّفاء، توحي بالهدوء الذّي يغمر المدينة، هدوء المنافي، تُختار لنا بذكاء ماكر، لتساعدنا على ابتلاع بذور النّسيان."(27)
(22)ن.م.ص50
(23)ن.م.ص52
(24)ن.م.ص53
(25)ن.م.ص60
(26)ن.م.ص62
(27)ن.م.ص68
ويستعيد القارئ عن طريق الوصف لحظات وصول الباخرة إلى ميناء بنزرت واحتفاليّة الاستقبال، ثمّ تواصل الرّحيل إلى وادي الزّرقاء وحمّام الشّطّ والمرسى وقرطاج "فمن سفر إلى سفر، ومن تهجير إلى تهجير.."(28)
وفي فصل بعنوان "لقاء الغارة"(ص97-ص106)، تعيد السّاردة وصف الغارة الإسرائيليّة على حمّام الشّطّ، السّاعة العاشرة وعشر دقائق صبيحة 1 تشرين الأوّل/أكتوبر 1985، فتستعرض نوعيّة الطّائرات المهاجمة وما ألقته من قنابل وصواريخ، وترصد النّتائج وعدد الضّحايا بأسلوب أدبيّ يختلف عن الرّيبورتاج الصّحفي، مُوظّفة قصاصات من الجرائد الصّهيونيّة ونقل فقرة من بيان منظمّة التّحرير الفلسطينيّة، وقد أدرجتها بطريقة نقديّة لا تخلو من صراحة، تعبّر عن موقفها: "ثورة حتّى النّصر!" تردّدت بين شفتيك الكلمات وعيناك ترنوان إليّ، في مزيج من الحيرة والأسى والغضب، تسألان عن مآل الثّورة وميعاد النّصر."(29)
لا تستكين حفيظة قاره بيبان في سردها، إلى أسلوب واحد في التّعبير، إذ يدفعها قلق الإبداع إلى الابتكار، وعدم الخضوع إلى الرّتابة، ضمن نفس الرّواية، وبذلك تفسح المجال للذّكرى أو للرّؤيا أو لأسلوب المذكّرات وسيلة لعرض ما يشغلها من قضايا، وفي فصل بعنوان "شتات أوراق"(30) تمحّض الورقة السّادسة لمسألة حارقة تروي عذاب الفلسطينيّين والسّوريّين نتيجة احتلال الجولان وتمزيقه: "أيّ صدفة جعلتنا ذاك المساء، نلتقي بعد العشاء، أنا وحسام، مع شريط "عروس الجولان" لتكتمل جولة يومي مع مسلسل الهوان العربي وأخبار خيباته وهزائمه؟!"(31)، تلخّص أحداث الشّريط وما يتضمّنه من إهانة للذّات العربيّة وهوان، وكيف يفرض العدوّ الصّهيونيّ تعسّفا وتنكيلا يجعل فرحة اللّقاء بين العروسين، قبل اجتياز الحاجز الفاصل بين جزئي الجولان، مأساة مُغرقة في الحزن والإذلال(ص118-ص120).
ومرّة أخرى، تكون أخبار التّلفزيون مصدرا للتّذكير بالمأساة، وتتوقّف الرّوائيّة عند أطفال فلسطين، فبعد مشهد طفل مبتور الرّجل، يعاين هدم الجرّافات لبيتهم، ها هي تعيد إلى اللأذهان فداحة الجرم في حقّ أطفال فلسطين: "رمقتني طفلة صغيرة، يفيض بعينيها الأسى، ومضت باكية تبحث في ركام بيتها المُهدّم... عاتبتني عجوز هزيلة، بصوتها المُتهدّج بالبكاء، أمام أشجار زيتونها المقتلع... صرخ بي الشّجر المثمر المتهاوي، والأرض الخصبة الباذخة، أمام جرّافات تأكل الخضرة والخصب والبهاء..."(32)، ويأتي الألم والإحباط مرّة أخرى من وسائل الإعلام: "...أفتح أحيانا التّلفاز وأشاهد الأخبار الأخيرة: يطلّ الجرحى بدمائهم النّازفة ،عليّ من الشّاشة... يحدّق بي القتلى والشّهداء..."(33)
(28)ن.م.ص69
(29)ن.م.ص102
(30)ن.م.ص109
(31)ن.م.ص118
(32)ن.م.ص115
لا تكاد الرّوائيّة تهمل في سردها أيّ تفصيل، على علاقة بفلسطين، من ذلك وقوفها عند مخطّط الكيان الصّهيوني للسّيطرة الكاملة على المسجد الأقصى، وتثير الموضوع بمناسبة ذكرى إحراقه في 21/08/1969. إنّها توثّق على لسان شخصيّتها، أحداثا تاريخيّة، تصوغها في نسق السّرد لتصبح جزءا منه دون إثقال كاهل النّصّ(34)، بل تعرض عنوانا فرعيّا لا يخلو من إدانة، "مسلسل التّطبيع التّونسي مع العدوّ الصّهيوني"(35)، وتفصّل العنوان بذكر التّواريخ الدّقيقة، ومضمون التّطبيع التّجاري والطّبّي ما بين سنوات 1985 و1987، نقلا عن صحيفة لم تذكر اسمها، وتلك حيلة فنّيّة لا تخلو من تقيّة، ولكن الأهمّ من كلّ ذلك، التّعليق الوارد على لسان غسّان سليمان: "ألم يدر الموقّعون على الاتّفاق أنّ بني صهيون أخطر أنواع السّرطان؟"(36).
وعندما تتعمّق الرّوائيّة في جذور مأساة العرب، توجّه إصبع الاتّهام إلى أمريكا ودون مواربة، فعلى هامش ضرورة خضوع دجلة لعمليّة استئصال الرّحم، تستطرد ناقدة: "الاستئصال وقاية في العصر الأمريكي! ! ! تطايرت صور خاطفة في الذّاكرة...
أطياف هنود حمر مطاردين، لتطهير الأرض للبيض القادمين!
صور أطفال عرب حفاة، باكين، مُهجّرين على مشارف فلسطين، مجنزرات وجرّافات، على أعناق الشّجر والمساكن والبشر... سريعة توالت صور الاستئصال البشري!"(37).
ومثلما أولت الكاتبة العدوان على "حمّام الشّطّ" عناية ،عالجت فنّيّا حادثة اغتيال "أبو جهاد"(خليل الوزير)، في فصل خاص بعنوان "الجريمة" (ص199-ص212)، فجمعت بين المعالجة التّاريخيّة والتّوثيق بانتقاء فقرات من الصّحف اليوميّة التّي تناولت الجريمة الغادرة، دون أن تتخلّى على مواقفها النّقديّة المتواترة في كامل الرّواية: "... عادت اللّيلة الماضية، ليلة الشّكّ... التّلفاز يغنّي، والمفتي والعرب منشغلون بالهلال، و"الزيت العربي"... والجرذان تهجم... الجرذان... !"(38).
(33)ن.م.ص166
(34)أنظر ن.م.ص184
(35)ن.م.ص185
(36)ن.م.ص186
(37)ن.م.ص190
(38)ن.م.ص201، "الزيت العربي" إشارة إلى مشهد استعراضي، يروّج تجاريّا لنوع من الزّيت
إنّ وصف مأساة فلسطين بكلّ أبعادها، لا تكتمل دون الوقوف على الجرائم الصّهيونيّة في حقّ المُثقّفين والمبدعين الفلسطينيّين، فهم وقود الثّورة ورعاتها، يناضلون بالقلم والفنّ من أجل الصّمود والمقاومة، وبثّ الوعي في الجماهير وإيقاظ الضّمير، وتنجح الرّوائيّة مرّة أخرى وبحيلة فنّيّة، في استحضارهم: "حين قرأت بداية اعترافاتك النّازفة -لأوّل مرّة- في قاعة ترتفع فيها صور الشّهداء: غسّان كنفاني، ناجي العلي، كمال ناصر وكمال عدوان... وآخرين، في تلك القاعة البسيطة المهيبة، تلمّ شتات الكتّاب الفلسطينيّين في فرعهم بدمشق، نظرت إليّ هدى حنّى، ابنة التّهجير والمخيّمات، من مقعدها بالصّفّ الأوّل، نظرة مليئة بالاعتراف والمحبّة والشّكر... فقط."(39) لكن رغم تعقّد الأوضاع وشراسة العدوّ وتواتر الخيانات، فإنّ حفيظة قاره بيبان تؤمن بالمقاومة: "بكلّ سلاح، في أيّ أرض، يمكن أن تقاوم (...) سنواصل النّضال، وسنرفع دوما غصن الزّيتون."(40)، ترديدا لنداء ياسر عرفات، في الأمم المتّحدة عام 1974.
ولعلّنا نتساءل عن سبب الحضور البارز لفلسطين في هذه الرّواية بالذّات، فيأتينا الجواب على لسان المؤلّفة، في زمن لاحق على شكل اعترافات: "كان الهاجس الأوّل لرواية العراء: "الجسد الأنثويّ ومعاناته الخاصّة الحميميّة في صراع الإنسان الأبديّ مع الموت. ولكن الرّواية تنفتح مساحاتها وتتعمّق والذّاكرة تعود تفرض جراحها الدّفينة على الوعي(...) وتحوّل السّرد مزاوجة بين هموم الذّات وهموم العالم. بين جراح الأرض وجراح الجسد. وأمسى جسد دجلة حبيبة غسّان في الرّواية هو الجسد العربيّ المدقوق بمسامير القمع."(41). ومن خلال "لقاء دجلة وغسّان، نقرأ التّغريبة الفلسطينيّة الثّانية، من سنة 1982، في 28 أوت/اغسطس، يوم قدوم الباخرة اليونانيّة إلى ميناء بنزرت من بيروت الحرب، بحوالي ألف من الفلسطينيّين المُهجّرين."(42) وتعود في سياق آخر للحديث عن التّغريبة، وعن اغتيال "أبو جهاد" وهي تحتفي بزوجته في الذّكرى الثّلاثين للتّهجير من بيروت وكانت بعنوان "لن ننسى"، رافقت المؤلّفة، زوجة الشّهيد خلال هذه الذّكرى، وقدّمت للقارئ لوحة عن "أمّ جهاد" ونضالها صلب منظّمة التّحرير الفلسطينيّة.(43)
في آخر روايات "بنت البحر" وأحدَثِها، تواصل تقصّي الهمّ الفلسطينيّ وجرحه الغائر، وقد زادته عدوانيّة الصّهيونيّة عمقا، ولئن فرضت عليها مقتضيات القصّ، تغيير بعض الأسماء، فإنّها تقف عند الحادث وتعيد تركيبه فنّيّا، دون أن يفقد قيمته التّاريخيّة: "أكّد جهاد الطّالب الفلسطينيّ أنّ الموساد وراء جريمة اغتيال محمّد الضّاوي، الجريمة التّي تركوها معلّقة في رقاب شباب تونسيّ..."(44)، إنّها تسترجع اغتيال "العالم التّونسي"، محمّد الزّواري، ومن الحيل الفنّيّة تتوسّل ببيان لطلبة تونسيّين متحمّسين، "و بعد معاينة المتابعة الإعلاميّة لإحدى القنوات الصّهيونيّة لآثار عمليّة الاغتيال في نقل حيّ مباشر من موقع الجريمة وفي قلب العاصمة التّونسيّة..." ترفع الأديبة صوتها عاليا، على لسان أحد الطّلبة يتلو بيانا لتدين العمليّة بشدّة، وقد "اعتمدت نفس الأسلوب والطّريقة التّي استُعملت في اغتيال شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، من استعمال الرّصاص في وضح النّهار وفرار القتلة من موقع الجريمة"(45)، بل ترتفع نبرة الإدانة مستغربة "تمكين قناة تلفزيّة صهيونيّة من البثّ المباشر والسّماح لمراسيلها ولمُصوّريها لولوج التّراب التّونسي، والتّنقّل والعمل بكامل الحرّيّة في موقع الجريمة وفي قلب العاصمة، واعتبار ذلك من التّطبيع الفعليّ مع الكيان الصّهيوني."(46)، ولا يخفى على القارئ الحصيف، ما يثوي فيما بين سطور هذه الإدانة من التّلميح إلى ضلوع يد داخليّة في هذه الجريمة وغيرها من الاغتيالات السّياسيّة، ويظلّ ملفّ التّحقيق مفتوحا إلى أن يرث اللّه الأرض ومن وما عليها...
(39)ن.م.ص225
(40)ن.م.ص211
(41)حفيظة قاره بيبان، سارقة النّار، عليسة للنّشر، تونس 2021 ص71
(42)ن.م.ص88
(43)حفيظة قاره بيبان، بنت البحر مع ندامى الفنّ، كلمة للنّشر والتّوزيع، تونس 2022 ص53
ويتواصل إصرار الكاتبة على الخوض في الشّأن الفلسطينيّ، فبعد اندلاع طوفان الأقصى، في السّابع من أكتوبر، عام 2023، كان قلمها في الموعد. وكتبت قصّتين ، نشرت الأولى في جريدة الطّريق الثّقافي العراقية. تتراوح أحداث قصّة "بئرنا"(47) بين الخيال والواقع. خيال، كاتبة تتهيّأ لتأليف قصّة، تبدأ بوصف الإطار المكاني: بستان شاسع وطفلة تلعب مع شقيقها الأصغر واسمه "نضال"، ولكن "نضال" اختفى وهرع أفراد العائلة للبحث عنه، وقد ظنّوا أنّه سقط في البئر، بعد أن أضاعته أخته أثناء اللّعب، ولكن التّحوّل المفاجئ في المرور من الخيال إلى الواقع، يكشف عن مدينة محاصرة، وأنّ "الأطفال كانوا هنا... يلعبون قبل القصف."(48) وأنّ الكاتبة لم يبق في ذهنها إلّا: "الأعضاء الصّغيرة المتناثرة، أشلاء "نضال"، ومزق ميدعة المدرسة."(48) وعلى قِصر النّصّ وكثافته فإنّ حفيظة قاره بيبان، تعالج من خلاله جرائم العدوّ الصّهيونيّ في حقّ الطّفولة، وتفضحها.
(44)حفيظة قاره بيبان، نساء هيبو وليال عشر، الأمينة للنّشر والتّوزيع، تونس 2024 ص201
(45)ن.م.ص202
(46)ن.م وص.
(47)بئرنا، الطّريق الثّقافي، العدد 137، العراق 18 مارس 2024
(48)ن م وص
وفي قصّة "يوميّات حلا" ، تخيّلت السّاردة حوارا بين حلا وأحد الصّحافيّين بعد فوزها بجائزة الرّسم، يستعيده الصحافي وهو يحاول إنجاد بعض ضحايا القصف الصهيوني، ويجد أوراق كراس يوميات حلا. وكان استرجاع أطوار المأساة ومصادرة الأملاك والتّهجير القسري نحو المُخيّمات، عداالقصف بالطّائرات وإلقاء الصّواريخ والقنابل، وقطع الماء والكهرباء والانترنيت، وهدم المنازل والمدرسة، والمستشفى . هكذا، قدمت الكاتبة إدانتها لما يقع في غزة، مُتوسّلة بكتابة مذكّرات يوميّة لحلا، يتراوح تاريخها بين 10 و14 أكتوبر 2023، ولئن كان الرّسم حاضرا في القصّة باعتباره وسيلة فنّيّة تعبيريّة، فإنّه استُثمر في أشدّ لحظات المأساة توتّرا، إذ اهتدى الكبار إلى فكرة مثيرة: "أمام توالي القصف، وسقوط المئات والآلاف تحت الأنقاض، كتابة أسماء الأطفال على الكتف أو الذّراع للتّعرّف عليهم حال السّقوط جرحى أو قتلى تحت الرّكام..."(49)، وكانت تمهّد بذلك للنّهائيّة الأليمة: استشهاد حلا ثمّ الصّحافي في نفس المشهد: "... وأنا ألتقط الذّراع والطّيور... وحلا. انقلبت السّماء، وهبّت الغربان السّود المجنونة فوقي ناعبة. ولا أدري، أهي الغربان السّود، أم شظيّة نار أم رصاصُ غدر اخترق الجسد الواقف أمام الدّمار..."
ممّا كتبت قاره بيبان في الشّأن الفلسطيني، مقال في شكل بيان، عنوانه "عزّة يا صوتنا"(50)، تداخل فيه الوصف بالتّنديد والإدانة: "غزّة... يا صوتنا الذّي لا يخمد"، نسترجع فيه ذكريات الدّمار الذّي وقفت عليه، بعد حرب إسرائيل الأخيرة على لبنان، تنقل صورا من الضّاحية الجنوبيّة، ولكن "شتّان ما بين الدّمار تنقله الشّاشات المُضاءة في البيوت الآمنة، وبين الدّمار الفعليّ على أرض ما زالت تحمل بقايا الحرب وآثار الدّم."(51) وتُدين "صحراء الأنظمة العربيّة الصّمّاء، الغارقة في جبنها"، ومع ذلك يحدوها أمل النّصر وأنّ اسم غزّة لن يذهب سدى "سيشرق شموسا تعمي كلّ الطّغاة والظّلمة الذّين شربوا دم الأطفال واستمتعوا بتدمير البراءة وإطلاق النّار على ابتسامة الأحلام لتنزاح ظلمة اللّيل على الأجساد الصّغيرة الطّريّة المُخرّبة".(52)
وحتّى تزيد النّصّ قوّة، ترصّعه بأبيات شعريّة وحكم، حول معنى الحياة وإرادة الشّعوب التّي لا تُقهر "هو ذا صوتنا... حبّنا... والإيمان(أسفي أن لا سلاح آخر نمتلك).
معك يا غزّة تعلو أصواتنا منشدة:
فلا بدّ للّيل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر(53)
وبعد هذا كلّه أو تنتظرون خاتمة؟
18 ماي 2024
(49)يوميّات حلا، مجلّة العربي العدد ماي-2024، ص5
(50)غزّة يا صوتنا، جريدة القدس العربي 2009-جريدة الشّرو2022ق
(51)ن م ص1
(52)ن م ص2
(53)ن م ص