المتفرجون العرب الذين يتسلون بعذاباتهم
حين فرض الأميركان على العراق صيغة الحكم عن طريق النظام الطائفي بعد أن محوا من الدستور الجديد مفهوم الشعب الواحد واستبدلوه بمفهوم المكونات قيل يومها إن العراق سيكون لبنانا آخر. بمعنى أنه سيكون مشروع حرب أهلية مفتوح على كل الاحتمالات غير السارة.
في سوريا عرض الجولاني وهو زعيم هيئة تحرير الشام الذي صار قائدا عسكريا وسياسيا للبلد أن يتم حل الفصائل والتنظيمات المسلحة التي صارت تحكم الشارع بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد من خلال دمجها بالقوات المسلحة التي تبخرت. ولم يخف الجولاني اعجابه بالسيناريو العراقي. ذلك يعني أن سوريا ستكون عراقا آخر.
لبنان آخر وعراق آخر فهل علينا أن ننتظر ظهور سوريا أخرى في مكان ما من العالم العربي؟ ما من قاسم مشترك بين كل تلك المقاربات سوى الخراب. لم يكن لبنان المقصود هو لبنان السياحة والجمال والحرية والأمان والحداثة، بل لبنان الطوائف التي تتذابح بوحشية ولم يكن العراق المقصود هو عراق الإبداع والتنمية والتعليم والترف بل عراق الميليشيات التي يتسلى أفرادها بالقنص وليست سوريا المقصودة هي سوريا الناعمة بياسمينها وشعرائها ومطبخها وعبقرية ندائها القومي بل هي سوريا التنظيمات الجهادية التي قرر العالم أن يصنع منها أملا للمستقبل.
ما صار واضحا عبر تجربة الخمسين سنة الماضية أن الشعوب العربية وقد أفلتت مصيرها من أيديها صارت رهينة لخيارات دولية تُملى عليها من غير أن تكون تلك الخيارات صالحة لبناء مستقبل صحيح تكون فيه المواطنة هي الأساس لبناء الدولة التي صارت تغيب تدريجيا. في كل المقاييس فإن ما تم فرضه على الشعوب العربية من خيارات كان لا يرقى إلى أدنى شروط الوضع البشري. ذلك ما فضحه بشكل جارح التحول السريع الذي شهدته سوريا. لقد فضلت الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل ان يتسلم السلطة في دمشق تنظيم مسلح لا يزال موضوعا على قائمة التنظيمات الإرهابية على أن يتم إحياء المعارضة العلمانية التي تم وأدها في وقت مبكر من حياة الثورة السورية.
لا معنى لذلك سوى الرغبة في إلقاء المجتمعات العربية في جحيم لا نهاية له. ما لا مفر منه الإعتراف بأن نظامي الحكم الوطنيين في العراق وسوريا كانا قد فشلا في الحفاظ على الدولة التي ترعى كرامة المواطنين ومهدا بذلك لإنهيارات كانت السبب لا في سقوطهما حسب، بل وأيضا في انحراف المجتمعات عن جادة الصواب بحيث صار القبول بشياطين العالم السفلي أمرا مرحبا به من أجل التخلص ولو مؤقتا من الوضع بالغ السوء الذي تعيشه. ذلك كله صحيح. ولكن الأسوأ منه حقيقة أن هناك قوى عالمية كانت قد وجدت في ذلك الوضع ما ييسر لها تنفيذ مخططات شريرة كانت قد وضعتها من أجل رسم خريطة سياسية جديدة لشرق أوسط ستكون إسرائيل هي سيدته.
بعد أكثر من ثلاثين سنة على نهاية حربه الأهلية لا يزال لبنان غاطسا في مستنقع فوضاه وفساد طبقته الحاكمة التي انتهى مفعول صلاحيتها منذ زمن بعيد.
بعد أكثر من عشرين سنة على نهاية عصر الاستبداد فيه لا يزال العراق يتلفت من غير أن تتضح صورته التي غمرتها العتمة وليس هناك أمل في وضوحها.
أما سوريا فإن حكامها الجدد يحملون لها معهم مشروعا ظلاميا، كل محاولة لإنكاره هي نوع من التزوير الذي يُراد من خلاله تبييض صورة الإرهاب.
في كل الأحوال لا يمكن تبرئة الماضي المحلي والاكتفاء بإلقاء اللوم على العامل الخارجي الذي ما كان له أن يكون مؤثرا لولا ما فعلته الطبقات الحاكمة في الدول الثلاث من سوء تدبير واستخفاف بالثوابت والقيم الوطنية والإنسانية. فلو كان هناك حد أدنى من التفاهم بين تلك الطبقات والمجتمعات لما تمكنت قوى عالمية من فرض أجندتها التي تعالج الفوضى بفوضى أشد فتكا.
لأكثر من ربع قرن سُمح لحزب الله بأن يفتك بالمجتمع اللبناني. وها هي الأحزاب والميليشيات التابعة لإيران تجدد شبابها من خلال نهب ثروات العراقيين الذي بدأ من أكثر من عشرين سنة. واليوم تخطط الولايات المتحدة لرفع هيئة تحرير الشام من لائحة المنظمات الإرهابية بما يؤهلها لتمثيل سوريا عالميا.
لا اللبنانيون ولا العراقيون ولا السوريون كان لهم دور في ما حصل وما سيحصل. وعلى الرغم من أنهم وحدهم مَن يدفعون الثمن فإنهم لا يزالون حبيسي مواقفهم السلبية التي جعلت منهم مجرد متفرجين.