التمثيل الدرامي بين التشخيص والأداء
يُعتبر التمتيل فنًا معقدًا يجمع بين الإبداع الفردي والرؤية الجماعية للمؤلف والمخرج، إذ يسعى الممثل إلى إحياء الشخصيات بطريقة تتجاوز مجرد تقليد الأفعال إلى خلق تجربة درامية قوية، ويُشكل هذا الفن تحديًا كبيرًا في السينما والتلفزيون المغربي، عندما يختلط مفهوما الأداء والتشخيص، وهذا يثير تساؤلات حول طبيعة التمثيل كعملية إبداعية، فما الفرق بين الممثل المؤدي والمشخص؟ وكيف يمكن للدراما أن تكون المحك الحقيقي للفنان؟
يُحدد قسطنطين ستانسلافسكي في كتابه "إعداد الممثل" التمثيل بأنه عملية خلق فني تُترجم أفكار المؤلف إلى حياة وحركة، تندمج فيها ملامح الدور مع شخصية الممثل لتشكل صورة متفردة، ويُبرز هذا التعريف أهمية التشخيص كجوهر التمثيل الدرامي، ويُطالب الممثل بأن يكون فنانًا مبدعًا يعيش الشخصية فكريًا وعاطفيًا. ويواجه الممثل المغربي تحديات في تحقيق هذا الاندماج، عندما يعتمد الكثيرون على الأداء التقني بسبب نقص التكوين الأكاديمي أو محدودية الإنتاج كما يدعي البعض، لكن هل فعلا هذا هو السبب؟
ويُعرف الأداء في اللغة بأنه إتمام واجب أو مهمة، وفي الفن يعني تنفيذ الدور وفق توجيهات المخرج أو النص، ويستند هذا المفهوم إلى رؤية أرسطو في كتابه "فن الشعر"، الذي يرى أن التمثيل كمحاكاة مباشرة لأفعال البشر، بحيث يظهر الإنسان في حالة فعل، بينما يظهر الأداء في السينما في حركات بسيطة مثل الدخول إلى مكان، تسلق جبل، أو النظر إلى جهة معينة، وهي مهام تقنية تُكلف إلى الممثل، ويُمكن أن يكون الأداء فعالًا في سياقات درامية محدودة، لكنه يبقى سطحيًا إذا لم يتجاوز إلى التشخيص.
ويُحيي التشخيص الشخصية بجعلها كيانًا حيًا ينبض بالحقيقة العاطفية، لكن يتطلب التشخيص من الممثل أن يتقمص الدور بحيث يصبح جزءًا منه، مندمجًا مع ملامحه الشخصية ليخلق تجربة درامية استثنائية، ويُؤكد ستانسلافسكي أن الممثل المشخص يجمع بين رؤية المؤلف وإبداعه الخاص، وهذا ينتج صورة فنية متجددة، ويظهر هذا في السينما والدراما المغربية من خلال أداء ممثلين مثل الراحل محمد بسطاوي، ومحمد مجد، وكذلك الممثل محمد خوي، وحسن فولان، وعبد الإله عاجل، وعبد الله ديدان، وهناك ممثل شاب قوي يدعى مراد حميمو من المشخصين الاقوياء.
ويُوضح الناقد باتريس بافيس في "المعجم المسرحي" أن الممثل هو وسيط بين النص والجمهور، ويؤدي الدور وفق إرشادات المخرج، لكنه في التشخيص يتجاوز هذه الوظيفة إلى خلق تجربة درامية حية، ويُضيف ماري إلياس أن الممثل المشخص يجسد شخصية غير شخصيته بوعي وإحساس، وهذا يثير انفعالات الجمهور.
ويتجلى هذا في السينما العالمية من خلال أداء خواكين فينيكس في فيلم " الجوكر"، عندما حول شخصية الجوكر من مجرم تقليدي إلى بطل مأساوي، فهنا يعد التشخيص انغماسًا في نفسية الشخصية، وهذا خلق دراما عميقة جعلت الجمهور يتعاطف مع الشخصية رغم تعقيدها. ويُظهر هذا المثال كيف يمكن للتشخيص أن يحول شخصية خيالية إلى رمز درامي يترك أثرًا في الذاكرة الجماعية، عكس الأداء الذي يمر مرور الكرام.
وتعاني الدراما والسينما المغربية من تحديات في هذا الاتجاه، فهناك نقص حاد في المشخصين، فالتكوين الأكاديمي عادة لا ينتج ممثل مشخص، لكن الموهبة تفعل المستحيلات في هاذ الباب و الأمثلة العالمية كثيرة على ذل،و يؤكد الناقد كلايف بل أن صفة الفنان تكمن في قدرته على إثارة الانفعال، وهو ما يميز الممثل المشخص عن المؤدي الذي قد يظهر باهتًا إذا لم يتجاوز حدود الأداء التقني، بينما يُشكل التشخيص جوهر الدراما، حينما يحول الشخصية إلى تجربة إنسانية تترك أثرًا عميقًا، فالممثل الذي لا يترك في نفوسنا اثرا ولا يحرك فينا المشاعر، هو في الحقيقة مجرد مؤذي يمر علينا مرور الكرام.
وتعد الدراما والسينما المغربية مرآة تفضح المواهب الحقيقية، فإذا أردت معرفة الممثل الفنان المبدع المشخص، فانظر إلى مدى تأثيره العاطفي والفكري عليك، وإذا رغبت في التمييز بينه وبين المؤدي التقني، فتأمل ما يعلق بذاكرتك من أعماله، ويُقال إن الممثل الذي تظل أدواره خالدة في وجدانك هو المشخص، بينما الممثل الذي تتلاشى أعماله من ذاكرتك ليس سوى مؤدٍ تقني عابر.