من الصداقة إلى القطيعة: كيف رسم كامو وسارتر خريطة الفكر السياسي

كتاب رونالد أرونسون يستعرض العلاقة المعقدة بين عملاقي الفكر الفرنسي حيث جمعتهما صداقة فكرية قبل أن تتفجر خلافاتهما السياسية والأخلاقية حول العنف والثورة، مما يعكس صراعًا بين رؤيتين متناقضتين للمثقف ودوره في المجتمع.

يُعتبر ألبير كامو (1913–1960) وجان بول سارتر (1905–1980) عملاقَي الفكر الفرنسي في القرن العشرين، ورغم اشتراكهما في الخلفية الوجودية وتأثيرهما الكبير على الأدب والفلسفة، فإن مسيرتيهما شهدت تحولات دراماتيكية بين التحالف والقطيعة. جمعتهما صداقة فكرية حميمة في بداية حياتهما، ثم انفصلا بسبب خلافات عميقة حول السياسة، والأخلاق، ودور المثقف في المجتمع.

يُقدم كتاب "كامو وسارتر" للكاتب رونالد أرونسون والذي صدر عن مؤسسة هنداوي بترجمة شوقي جلال، دراسة عميقة ومثيرة للعلاقة المعقدة بين كامو وسارتر،. متجاوزا حدود التاريخ الفكري ليُسلط الضوء على الخيارات الأخلاقية والسياسية التي شكلت مسار حياتهما وواجهت ملايين القراء الفرنسيين. فعلى الرغم من تشابههما في نشأتهما بدون أب، حيث جاء كامو من بيئة فقيرة في الجزائر، مدفوعًا بالعدالة الاجتماعية، بينما كان سارتر، المنتمي للطبقة البرجوازية الباريسية، يميل إلى القضايا الثورية بعد تجربته في الحرب العالمية الثانية. من خلال صداقتهما الحميمة خلال المقاومة الفرنسية، إلى انهيارها بسبب الخلافات حول الشيوعية والعنف الثوري.

يروي أرونسون هذه القصة بأسلوب أكاديمي يتسم بالإنصاف والتعاطف، مؤكدا أن العداوة بين كامو وسارتر لم تكن شخصية، بل صراعًا بين رؤيتين للعالم: واحدة ترفض التنازل عن الأخلاق (كامو)، وأخرى ترى أن الثورة تتطلب التضحية بها (سارتر). ربما هذا ما يجعل حوارهما حتى اليوم ضروريًا لفهم تناقضات عصرنا.

يستعرض الكتاب، الذي يُشبه مسرحية فكرية من ثلاثة فصول، كيف أثرت وجهتا نظرهما المتباينتان حول قضايا مثل الحرب الجزائرية على إرثهما كرمزين للوجودية والالتزام. يُعتبر هذا العمل مدخلاً غنيًا لفهم الصراعات الفلسفية والسياسية التي عكست تحديات عصرها، ولا تزال تُثير التأمل في مسؤولية المثقف تجاه العالم.

وُلد كامو في الجزائر تحت الاستعمار الفرنسي، وعاش طفولة فقيرة، وهو ما أثر لاحقًا في رؤيته للظلم الإنساني. تميزت فلسفته بتركيزها على "العبث" ـ التناقض بين بحث الإنسان عن المعنى وكون الكون صامتًا ـ وكيفية مواجهة هذا العبث دون اللجوء إلى اليأس أو الأوهام. أعماله الرئيسية تتمثل في رواية الغريب (1942) التي تطرح سؤالًا وجوديًا: هل الحياة تستحق العيش؟ وكتابه أسطورة سيزيف (1942) وهو عبارة عن مقال فلسفي يرى أن التمرد على العبث (مثل سيزيف الذي يحمل صخرته إلى الأبد) هو طريق للكرامة. وروايته الطاعون (1947) والتي تشكل رمزا للمقاومة ضد الشر، سواء كان النازية أو أي استبداد.

كان كامو يؤمن بأن العنف غير مبرر حتى لو كان لغاية "ثورية"، وهو ما جعله يختلف مع سارتر لاحقًا.

عكس كامو، نشأ سارتر في باريس وسطًا مثقفًا، وطور فلسفة تركز على حرية الإنسان المطلقة ومسؤوليته عن خياراته. رفض أي "ماهية" محددة للإنسان، قائلًا: "الوجود يسبق الماهية"؟.. أعماله الرئيسية تتمثل في: كتابه الوجود والعدم (1943) الذي يؤسس فيه لفكرة أن الإنسان "محكوم عليه بالحرية". ومسرحية الذباب (1943) وهي مسرحية تستخدم أسطورة يونانية لتنتقد الخنوع للسلطة. وكتاب الكلمات (1964) وهو عبارة عن سيرة ذاتية تكشف تناقضاته كـ"مثقف منعزل".

تبنى سارتر الماركسية لاحقًا، وبرر العنف كأداة للتغيير الثوري، بينما رفض كامو هذه النزعة.

التقى كامو وسارتر في باريس خلال الحرب العالمية الثانية، وأسسا مجلة العصر الحديث، لكن الخلافات بدأت بعد الحرب نشبت بينهما أولا على السياسة دعم سارتر الشيوعية والثورة العنيفة، بينما شكك كامو في أخلاقية ذلك، خاصة بعد جرائم ستالين. ثانيا الحرب الجزائرية: وقف كامو ضد العنف من كلا الجانبين (فرنسا والجزائريين)، بينما دعم سارتر استقلال الجزائر حتى لو تطلب العنف. ثالثا النقد العلني: هاجم سارتر كامو في مقال شهير (1952) واتهمه بالسذاجة السياسية، فرد كامو: "أنت تبرر القمع باسم الحرية".

يقول أرونسون "سيظل كامو بين الرجلَين هو الأكثر كسبا لتعاطفنا؛ ذلك نظرا إلى أنه مات شابا، وعلى حين بغتة؛ ولذا لن يبدو كهلا في نظرنا، بينما نستطيع أن نرى سارتر وقد بلغ من السن عِتيًّا، أصبح شيخًا مستنفدا مُنهَك القوى، وكأنه عُمر أكثر من المفترَض، وخلف وراءه عِراكات غيرَ لائقة، سواء كانت كلماته الأخيرة هي التعبير الصحيح عن نفسه وفِكره، أم لم تكُن. وعلى الرغم مما بدا من أن نجاح كامو أدار رأسَه وأغاظه الجدل الخشن المُفرِط، فإنه كان دائما شخصا واضحَ المشاعر والمُعاناة والشك في ذاته، ومستضعفًا. وأكثر من هذا أن قدراته الأدبية حصادُ جهدٍ شاقٍّ، وأكثر إنسانيةً من مواهب سارتر الفكرية المذهلة.

ويرى أن أنصاف الحقائق الرائجة الآن تشبه نظرةَ الرجلَين أحدهما إلى الآخَر بعد القطيعة: إنها تُبرِر وتتهم أكثر مما تفسر، وتحول دون الوصول إلى فَهمٍ أكمل. غير أن القصة التي رويتها وفرغت منها فورًا تُشير إلى ما هو أعمق من حيث النقد والتقدير لكل من الرجلَين. وواقعُ الأمر أن كلا منهما مضى شططًا إلى حدٍّ بعيد. حدَّد كامو اختياره بطريقة صريحة ومُطلَقة: أمي أو العدالة. ولكن بعد أن أعلن كامو صراحة ومن دون موارَبة أن اهتمامه بحرية الجانب الآخَر يتعيَّن أن يكون في إطار ضمانِ بقاء عشيرته هو، نجده يُنكِر على الجزائريِّين هذا الإحساسَ نفسَه بالنسبة إليهم. وقال سارتر لا عدالةَ من دون عنف. ولكن بعد أن كد سارتر واجتهد لشق طريقه، على الرغم من استحالة أن يَنعم العالَم بالسلم والنور دون الإطاحة بهياكل القهر والظلم الاجتماعيين، أعلن أن الشر والعنف عند الضرورة خير إيجابي.

ويضيف مستدركا أنه على الرغم من أخطائهما ـ كامو وسارتر ـ تميز كل منهما بقوة البصيرة والقدرة على التعبير وقوة الموقف السياسي-الأخلاقي؛ مما وضَعهما في مَصافِّ عظماء التراث الفرنسي من أمثال فولتير وهوغو وزولا. إن الاثنين بعد أن حققا شهرتيهما غرقا في السياسة، والتزم كل منهما وفقا لشخصيته وطاقته واقتناعاته، مشروعًا متَّسقًا للفهم والعمل في الإطار السياسي. ولم يكُن هذا مجرد اشتغال بالشكل والعناية بالسطح والمَظهر، بل استنفد هذا كلَّ طاقتَيهما. وليس بالإمكان وضْعُ خطٍّ تمييزي بين أعمال كامو وسارتر في الأدب أو الفلسفة أو السياسة، ذلك أن أعمق أفكارهما امتزجَت بالسياسة ونبعَت منها وأججتها؛ ومن ثم لا غرابةَ إذ استحالت المصالَحة بينهما. وجديرٌ بالملاحَظة أن كلا منهما كمثقف سياسي كان راغبًا في المخاطَرة، وفي أن يبدو غير متناغِم، وأن يقع في أخطاء وأن يصبح إنسانا غيرَ محبوب لدى الناس أو غير مقبول، بل مكروها. وخاطر كل منهما، عند الضرورة بأمنِه الشخصي مُبديا شجاعةً مُنقطعةَ النظير ككاتب ذائع الصيت أكثر مما لو كان أي منهما شابا غير معروف.

ويشير أرونسون إلى أن كل منهما وقَف شامخا، وتحدث صراحة من دون مُوارَبة، وأنصَتَ المستمِعون لهما… كامو في إدانته الصلبة للروح الشمولية، وسارتر في إدانته التي لا تقل صلابةً للاستعمار. وكامو من أجل سياسة للحرية وضبط النفس، وسارتر من أجل الهجوم الشرِس ضد القهر. كامو ضد تبريرات العُنف السياسي، وسارتر ضد العنف المنظَّم. وهكذا أيضًا عندما نال كامو وسارتر جائزةَ نوبل في الآداب العامَين 1957م و1964م، ساد الاعتقاد على نطاقٍ واسع أن الجائزة اعترافٌ بإنسان كامل، ليس فقط إنتاج كل من الأدب الروائي والمسرح والفلسفة والكتابات السياسية والصحافة والنشاط السياسي، بل والاعتراف بحضورِ كل منهما على صعيد فرنسا والعالَم أجمع. كلٌّ منهما تحدَّد كِيانه من خلال المحاجاة مع الآخَر، وبهذا السبيل فقط أصبح كل منهما المثقَّف السياسي الكاملَ النضج والتطوُّر، حتى اعترف العالَم بكلٍّ منهما؛ كامو وسارتر: القطبين النقيضَين اللذين حددا اختيارات جيلهما. تميز كل منهما بموهبة بالغة العظَمة، والاستغراق في العصر إلى أعمق الأعماق، والالتزام السياسي على أشد وأحكم ما يكون، والحافز الذي يحدو كلا منهما لتوضيح وجهة نظره بقوة وجلاء، بحيث تجلَّى هذا كله مجملًا في صورة كامو أو سارتر. وجاءت نهاية صداقتهما كحدثٍ حتمي لهذه العملية نراها منقوشة على صفحات القضايا التي باعدَت بينهما.

ويكشف "تشوَّهَت القطيعة بسبب زعم الكثيرين منذ أيامهما حتى الآن بأنَّ القطيعة تولَّدَت عن نهجَين مُتعارِضَين تعارضًا أساسيًّا في التعامل مع الحياة. وقدَّم هؤلاء مثالًا على ذلك التعارُض الأبدي بين الإصلاح والثورة، العِياني والمجرد، اللاعُنف والعُنف، موقف الفنان وموقف الفيلسوف ـ المتمرِّد والثوري. إن إبدال خلافات الرجلَين الشخصية والتاريخية والاستراتيجية بالمبادئ الأنطولوجية من شأنه أن يجعلنا نُخطِئ في النظر إلى الشعارات الناتجة عن صراعهما، ونضعها بديلًا عن الأسباب. لقد نبعَت اختياراتهما المختلفة من الحرب الباردة، والإمكانات التي أضفاها عليهما تاريخ ومجتمع فرنسا، ونقاط الانطلاق عند كل منهما، والدروب التي سلَكَها كل عبر العالَم، وتعارُضهما الواحد مع الآخَر. تمثل القطيعة بينهما واقعةً تاريخية وليسَت أكثر من ذلك. إن كلًّا منهما قد صاغ نفسَه على النحو الذي أصبح عليه، وفي المسيرة مع الحرب الباردة، والحاجة إلى الاختيار من كل منهما لطبيعة المسار، وهكذا كان لكل من هذين المُفكِّرَين المتميزَين أسبابه المتمايزة للاستجابة ولمحاوَلة التأثير في جماعتهما السياسية وفي عالَمهما الأوسع.

ويتساءل أرونسون هل حسم التاريخ القضايا التي حدَّدت لكل منهما فِكره وشخصيته، ثم دفعهما إلى الافتراق؟ ويقول "نعم. هل حسمَت الأحداث موقفَنا الراهن الذي تغير على نحوٍ كامل بحيث يمكِننا الآن أن نعلن نهايةَ الصراع بين كامو وسارتر؟ لا. إنَّ القضايا الأعمق التي حفزت كامو وسارتر وفرقت بينهما لا تزال بيننا. وما فتئ القطاع الأكبر من الإنسانية يناضل من أجل حق تقرير المصير، أو بسبب المَظالم من حيث الثروة والسلطة، أو بسبب هيمنة الشمال على الجنوب. ويبدو أن الإرهاب يمضي في ترابُط وتوافُق مع الاقتصاد العالَمي. العنف والحرب لا يزالان "قانون العصر"، والإرهاب النووي يؤكد وجوده. وما أكثر ما هو مُنحرِف بشكلٍ راديكالي عن الخط المستقيم في عالَمنا! وما دُمنا نحن في صراع معه، سيظل كامو وسارتر نصبَ أعيُننا ـ وعلى نحوِ ما كانت علاقتهما، وحُججهما، وحكمة كلٍّ منهما، ومَواضع القصور في فِكرهما. لقد هزمت الرأسمالية الديمقراطية الشيوعية، وزالَت غالبية أشكال الاستعمار، وانتهت الحرب الباردة، واختفَت القضايا المحدَّدة التي فرقت بين الاثنَين، ونحن إلى هذا الحد نعيش في عالَمين مختلفَين، وأصبح بوسعنا الآن أن نُقيم كلا من كامو وسارتر، ونرفض طريقة إما/أو التي باعَدَت بينهما. واتساقًا مع هذا، أجدني مُضطرا إلى القول لقد حان الوقت لظهورِ نمطٍ جديد من الفِكر السياسي بوسعه أن يُؤالِف بين قوى كل من الاثنين ويتفادى ضَعفَ كل منهما. أصبح بوسعنا تصور شخص يقول الحقيقة في كل الأوقات، ويُعارض القهر في كلِّ مكان، ويوحِّد القدرة المميزة لكل من الاثنين على الرؤية الثاقبة التزاما بمعيار أخلاقي وحيد. إن مِثل هذا المثقف سوف يُنِير الطريق ويكشف حقيقة العُنف المنظَّم الراهن مع قَبُول تحدِّي الدخول في صراع مثمِر وفعَّال ضدَّه دون خلق شرور جديدة. هل من كامو واحد؟ وكما قال سارتر ذاتَ يوم، ولكن في مجال آخَر، هذا أشبه بمَن يتخيل وجود مَلاك، تجسيدا نظريا مجردا لما نحن في حاجةٍ إليه على وجه الدقة والتحديد في موقفنا. والملائكة، أيا كان الرأي والعقيدة بشأنهم، يمكِن أن تكون صورتهم معيارًا يهتدي به البشر.