ثم لا يموت فيها ولا يحيى.. مآلات قانون قيصر في سوريا

قضية اللاموت واللاحياة لا تنطبق فقط على إدارات الحكم في سوريا بل تشمل الشعب الذي عانى القتل والذبح والتشرد والنزوح وعانى الفقر والجوع وسيعانيه أكثر بعد قانون قيصر.
الغرب يمنع النظام والروس من احتلال إدلب للإبقاء على منطقة للمعارضة بين الحياة والموت
السوري يجد أن حياته توقفت في 2011 وأن كل ما حدث بعدها كابوس اقتطع من عمره
الهدف من قانون قيصر ليس اسقاط النظام بل إدخاله في حصار اشبه بالحالة العراقية أيام صدام حسين

وقفت كثيرا عند الآية القرآنية التي تتحدث عن بعض أحوال أهل جهنم فتقول "ثم لا يموت فيها ولا يحيى" وهو معنى مجازي لأعلى مرتبة في العذاب من الممكن أن تنال البشر. أما سر اهتمامي بالآية فلأنها تنطبق على الوضع السوري بامتياز.

في سوريا ثلاث إدارات للحكم هي مناطق النظام ومناطق المعارضة ومناطق الإدارة الذاتية الكردية وهناك في المجموع الكلي الشعب الذي يعيش تحت حكم هذه الإدارات. وفي الحقيقة فإن هذه الإدارات لا هي بميتة ولا هي حية وكلما تداعت للسقوط هرع صانع القرار الدولي لإيقافها على رجليها من جديد.

في فترة من الزمن ضعف النظام السوري بشكل رهيب وخسر أجزاء كبيرة من الأرض السورية وبات قاب قوسين أو أدنى من الإنهيار وعادة ما تلجأ الأنظمة الشمولية إلى التخريب مع قرب الإنهيار ولذلك استخدم النظام الأسلحة الكيماوية وقتها خاصة في الغوطة وهنا انتفض المجتمع الدولي وقرر إسقاط النظام القابع أصلا على شفا حفرة من الإنهيار لكن تغير الوضع فجأة وقرر صانع القرار الدولي إبقاءه وتمت صفقة الكيماوي بين أوباما وبوتين بتسليم مخزون الأسلحة الكيماوية ليتم إنقاذ النظام لكن مترنحا بين الموت والحياة.

في عام 2014 غزا تنظيم داعش مدينة كوباني واحتلها وكان سابقا قد احتل أرياف الحسكة والرقة ومناطق شاسعة مما كانت تحكمها الإدارة الذاتية التي انهارت في كامل هذه المناطق لكن صانع القرار الدولي تدخل وأنقذ الإدارة الذاتية ومنعها من الإضمحلال وأعاد كوباني إليها وكامل أرياف الحسكة والرقة والبادية وأرياف دير الزور الواقعة شرقي الفرات وهكذا أحيوها من جديد.

في عام 2018 احتلت تركيا مدينة عفرين وفي العام التالي تدخلت في شرق الفرات واحتلت المنطقة الممتدة ما بين تل أبيض ورأس العين وحدثت بلبلة لدى الإدارة الذاتية خاصة بعد قرار ترامب بالإنسحاب من سوريا واستغل النظام والروس الوضع فدخلوا شرق الفرات عبر منبج حتى الجزيرة وبدا أن الإدارة الذاتية على وشك الإنهيار لكن أميركا قررت مرة أخرى إيقافها على رجليها فقررت البقاء في مناطق البترول والغاز وتسليم إدارتها ومواردها لقوات سوريا الديمقراطية وإيقاف عملية الإنسحاب الأميركي وهكذا رجعنا إلى لعبة الموت والحياة من جديد.

في مناطق المعارضة ومنذ أحداث حلب يحاول النظام مع الروس اقتحام إدلب لكن في كل مرة يضغط الغرب لإيقاف هذه العملية عبر تحريك ملفات عدة ورغم أن الوجه الغالب لمنظومة الحكم في إدلب تتبع تنظيم القاعدة عبر فرعيها جبهة النصرة وحراس الدين إلا أن الغرب يمنع النظام والروس من احتلال إدلب وذلك للإبقاء على منطقة للمعارضة لا هي بحية ولا هي بميتة ولكنها تنازع الموت والحياة.

مما سبق نفهم أن المجتمع الدولي لا يريد السقوط التام لأي طرف ولا يريد له القوة التامة أيضا بل يريدون إطالة أمد الصراع وكلنا رأينا مع اقتراب تنفيذ قانون قيصر كيف انهارت قيمة العملة السورية وقامت مظاهرات في عدة مناطق تابعة للنظام وبدا أن النظام آيل للإنهيار لكن تمت صفقة جديدة بين روسيا وأميركا وقف على إثرها النظام على قدميه من جديد وتحسن سعر الصرف (بالتأكيد ستنهار العملة مرة أخرى لكن بالتدريج) ومن هنا ندرك أن الهدف من قانون قيصر ليس السقوط السريع للنظام بل إدخال الدولة السورية في حالة حصار طويل الأمد كشيء أشبه بالحالة العراقية أيام صدام حسين وكلما اقترب طرف ما من السقوط التام ثبتوه وأقاموا دعائمه من جديد.

تجربة الحصار الأميركي للدول تعتمد منذ القدم على تطويل أمد الحصار ولا تستهدف بالضرورة إسقاط الأنظمة. فأميركا تفرض الحصار على كوبا منذ الستينات وعلى إيران منذ الثمانينات وقد بقي نظام صدام حسين تحت الحصار حوالي أربعة عشر عاما وفي اعتقادي أن قانون قيصر سيطول أمده في سوريا أيضا وحسب ما تدعي أميركا فإن الهدف من القانون هو الضغط على النظام لإيجاد تسوية وليس الهدف منه إسقاطه وفي كل الأحوال لا نتوقع من النظام تقديم أية تسوية أو تنازلات لأن ذلك سيعني سقوطه أو هكذا يفكر هو أو يفكر حلفاؤه وربما يعتقد حلفاؤه كالروس والإيرانيين أن إيجاد تسوية للوضع السوري سيجعلهم هم أنفسهم يخسرون نفوذهم في سوريا.

في المحصلة ليس الروس والإيرانيون فقط سيخسرون نفوذهم عند إيجاد تسوية نهائية بل كل الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية ومنها تركيا حيث لن يبقى مبرر لوجودها في سوريا. فتركيا اليوم تستفيد من الأزمة السورية عبر استغلال المناطق المحتلة وخيراتها واستغلال الشباب السوري الغض في توسيع عملياتها خارجيا كما هو الحال مع إرسال آلاف الشباب السوريين إلى ليبيا بدل جنودها. وعلى العموم فكل طرف يستغل حلفاءه عبر إيجاد فكرة البعبع الآخر. فروسيا تتحكم في العلويين عبر تخويفهم من السنة وأنها الحامية الوحيدة لهم وتركيا تخوف السنة من النظام والأكراد وقد أقنعتهم بأنه لولاها لأبادهم النظام وأميركا أقنعت الكرد بأنه لولاها لأبادتهم تركيا.

في ظل هذه المعمعة يجرب كل طرف أسلحته على الأرض السورية ويتفقد مدى فاعليتها ومكامن قوتها وضعفها وقد استطاعت روسيا الترويج لخردتها عبر عملياتها في سوريا وعقدت الكثير من صفقات السلاح وجرب التحالف الدولي كل أنواع أسلحته في الحرب على داعش على مر السنوات السابقة.

قضية اللاموت واللاحياة لا تنطبق فقط على إدارات الحكم في سوريا بل تشمل الشعب الذي عانى القتل والذبح والتشرد والنزوح وعانى الفقر والجوع وسيعانيه أكثر بعد قانون قيصر وكل من يعيش داخل سوريا لا يموت فيها ولا يحيى فيكفي أن لا تحس بالأمان وأنت داخل بيتك ولا تعلم في أية لحظة سينهار السقف فوق رأسك أو تغتالك رصاصة طائشة أو تخطفك عصابة مارقة أو تذبحك جهة متطرفة.

النازحون خارج سوريا ليسوا بعيدين عن هذا الألم وكم رأينا وسمعنا عن حالات إنتحار للاجئين في لبنان أمام مفوضية اللاجئين بسبب الفقر والقهر وهذا القهر أصبح متلازمة للكثير من السوريين في كل دول اللجوء بما فيها الكثير من الدول الأوروبية فدولة مثل ألمانيا أعطت للكثير من اللاجئين الحماية المؤقتة وحرمتهم من حق لم شمل أولادهم وزوجاتهم وهناك الكثيرون منذ سنين طويلة يعيشون هذا القهر والإنتظار في ألمانيا والإنتظار نفسه هو حالة بين الموت والحياة.

على المستوى النفسي يجد السوري أن حياته توقفت عند 2011 وأن كل ما حدث بعدها كابوس اقتطع من عمره ولكن هذا الكابوس من الممكن أن يستمر طويلا ما بعد قيصر ثم لا يموت فيها ولا يحيى.