جمال خليل سطوة الحالة وإنبثاق القلق

الفنان التشكيلي يعلن من داخل متن أعماله عن جنازة النهر والحياة والإنسان مهما سما وإستطال، فالثيران الهائجة على تعكير هذا النهر لا تهدأ وعفاريت الليل تتقمص الهيولى وتستدعي حكاياتها وتهرول بها نحو التهويل والترجيم.

في خضم الظروف التي أصبحت فيها العباد والبلاد في مهب الريح، جميل أن يأتي أمرؤ ما ويعلن عن إنخراطه في صياغات جمالية إبداعية تشكل رؤيته فيما يحصل، منطلقاً من سيرورات إدراكية بإعتبارها إحدى الطرق القرائية التي يمكن بها إستحضار الوقائع في شروطها الأولية الموضوعية منها واللا موضوعية والانغماس فيها وفي شتى لحظاتها وحالاتها، وهذا هو الأساس الذي يبني جمال خليل بناءه عليه عبر ردح من الزمن مُذ ركب سفينة الإغتراب قبل عقدين وأكثر إلى هبوب العاصفة الهوحاء التي إقتلعت الكثير من مظاهر الحياة ضمن طقوس ظامئة للغرق، ضمن طقوس هي مزيج من الدمار والخراب والدم ويمكن تلخيصها بطوفان خوف من الغياب والمجهول والنار، أقول ضمن هذه المعمعة المرة يرسم خليل مشاعره الغامضة ليطلقها في تجربة، في رحلة تستحوذ على الحكاية كلها، بمشاهدها المختلفة ويؤججها خليل بأصابعه وبمشاعره مبحراً في سواحلها وفي بعض هوامشها منتظراً سطوة الحالة وإنبثاق جذورها من بين وديانه الساكنة به وبالأصوات الخارجة من أعشاشها، فهو يروي عواطفاً خارجة عن المألوف وبحساسية فائقة ومغايرة تجاه ما يرويه بكل روعة حب الحياة، فهو يرفع الستار عن المسافات الحزينة بذاكرة غير محايدة بدءاً من العتبات الثانوية كفصل مثير من الحكاية ذاتها ومروراً بأسفارها وأسرارها التي تتوزع عليها مروياته شاقاً طريقه نحو إختلاط رؤيته بالدهشة المتعددة الأصوات والزاخرة بعمق نسيجها وعمق رائحة عبقها داخل وقع وجهته الجمالية، فخليل يلقي بمعارفه المعلنة منها وغير المعلنة في أتون التجريب وسياقه الحامل لمقوماته كلها من خلال نماذج وإشكالياته تجعله قادراً على إثارة إهتمام المتلقي في بداية العويل مجسداً بذلك حضوره اللافت في عمله وهذا بحد ذاته إختزال وفي لسرده وتقاطعه مع تدخلاته الذاتية بوصفها مجريات يمضي خليل عبرها إلى ممالك الشمال وسحبه الكثيرة والماطرة بالوجع على إمتداد سرد الحكاية بل على إمتدادالزمن .

يعلن خليل من داخل متن أعماله عن جنازة النهر / الحياة، الإنسان / مهما سما وإستطال، فالثيران الهائجة على تعكير هذا النهر لا تهدأ، وعفاريت الليل تتقمص الهيولى وتستدعي حكاياتها وتهرول بها نحو التهويل والترجيم، فالفزع وبأبعاده المختلفة يختفي في الحكاية حتى يلتقي باللعبة على نحو أشكال وأوضاع وإستطالات دون أن تغلق الباب خلفها، والجميع يجهش في الشارع الطويل على سبيل اليقين، لاشيء يعيش، فكل الأشياء موغلة في النعيق، وإن كانت وجوه خليل المرتعشة تهتف بالسحائب لتخترق المسافة والطريق، وان كانت الملامح قد سقطت بين رفات النهر، فالوضع المتدني للجانب الإنساني يجعل من خليل أن يتعامل بكثير من الجدية مع الحلقات المملة والقاتلة لهذا العالم، فهو يقترب من سطح اللوحة بكل ألم، الألم الذي يستوجب الحذر كل الحذر حتى يحسم التعيينات التي تخلق الكثير من الإلتباس داخل الحكاية ذاتها وإن بغياب صوت السارد في بعض الأحيان، ومع ذلك فخليل لا ينسى أن يربط خيوط ألمها بوجوه بعضها بعضاً، وجوه مدهشة بمبالغتها، مرهفة حتى وهي مغتربة، لكن الخوف يدفعها إلى أبجدية أخرى، إلى سيرة أخرى أقل ما يقال عنها قاسية جداً إلى حد الإختمار .

خليل متفهم لإنفعالات شخوصه، يتعامل معها كأنه يحرث في تربة خصبة، وهو سعيد بذلك لأنه يلبي حاجاتها لضرورات تعبيرية خاصة به من جهة وحياتية زمنية من جهة ثانية، ويقودها بهدوء شديد على شكل أسراب نحو حلمها الذي يوازي بدايتها وهي تسير بكل وجعها نحو مقصلة غير منتهية دون أن تبدي أي رفض أو تذمر، إلا أن خليل يبذل جهداً لا بأس به وهو يحملها وملامحها وبوداعةو حب إلى الفراغ الذي يعمل فيه لتطفو في مداها حتى ترمى متعبة في لوحته وتملأ الثغرات في مساحاتها، وإن كان بعضها ترغب في الهروب إلى ماض أو ربما إلى غد قد لا تصل إليه أبداً، مع إستمرارية تواتر حكاياتها بتلميحاتها القائمة على عدم الإستسلام لقدرها بل تواجه السموات بقدها الناطحة للضوء وللهواء، وتواجه الريح بخفايا صدورها وتمتماتها، فعالم شخوصه تستقي حضورها من تفعيل الحكاية وإستغرابها، من حركيّة العتبات والبحث عن البؤر، من إستدعاءالتقطيعات المصاغة ذهنياً مع ما يلائم الإنخراط في سياقها السردي، وهذا ما يجعل خليل يتباطأ قليلاً في إيقاعاته وهو يقرب عمله من حالات فيها يتسع دائرة التأمل عمقاً، من حالات فيها تكثر أوراق الإنزياح المقنن وهي مبللة بأحاسيسه ودموعها، وهذا وحده قد يكون كافياً على تحديد جمالية العمل الفني لدى خليل، وتبيح له إستخدام كائنات متقارية ومتراصة تحسم الحكاية وتختفي في اللج جمعاً لتضبط بئس الأصقاع المتباعدة، وبئس المآل وأوهامها، أي أن خليل ينجز الفعل في مصائر مخلوقاته من سعيرها وفي جنازة النهر من نبضاته المؤثرة، فالإعتقاد بغزارة التونات ملحمة، والإقتراب من التشكيلات الحديثة توسعة للذاكرة نحو كسر رتابتها وتوظيف رؤيتها بغنائيات حزينة يمارسها خليل بالطريقة التي تجعله يتحسس إغراق الضوء في العتمة .