سعد يكن من ترويض الفضاءات إلى كشف أسرارها

الفنان التشكيلي في بحث دؤوب ومتواصل لترسيخ تجربته التي لها حيّز جميل في المشهد التشكيل السوري.

خمسون عاما ونيف والفنان التشكيلي سعد يكن في بحث دؤوب ومتواصل لترسيخ تجربته التي لها حيّز جميل في المشهد التشكيل السوري، خمسون عاما ونيف وهو يزرع الفضاءات بمرايا عاكسة للتحولات الساخنة منها والمتنامية، فهو يتعامل مع الوقائع الذاتية بدأب وصمت فلا يكتفي بنقل الجواني على السطح بل يترك القسم الأكبر للمتلقي كي يغور في المغيبة منها عله يستعيد الكينونة المفقودة أو ما يشي بذلك حيث يستدرك تلك التساؤلات المتراكمة في الأفق أو المعلقة في سماء ما ليلامس ظاهرته، وأقصد ظاهرة سعد يكن حين يمتزج المناخ الذاتي الداخلي مع المناخ الخارجي فتتعزز تلك السيرورة التي لا تزال تستوحي معضلاتها من عدم كبح ذلك الخطاب الجميل الحافر في الروح أزقة عذبة تستوعب كل الكلام الممنوع، من الأسطوري إلى الواقعي بمفهوم جديد إلى المحلوم به بفعل تعزيز بُعد يستوحي مفرداته من صخب الحواف، وفي هذا الاتجاه يعيد سعد إحياء تلك الحركة الكاشفة ببراعة العصف كل تلك التقنيات الطامحة للاحتجاج على شروط الخلق، فهو يحيط مطامحه بهيمنة ألوان تخصه هو وعلى نحو أكثر الأحمر والأبيض والأسود الثلاثي الذي به يعزف مقطوعاته العذبة في أكثر الأحيان، فهو يعمل منذ زمن بعيد على تحقيق معادل إبداعي يجعله يروض فضاءاته بكشف أسرارها لخلطته اللونية السحرية فيدخل إلى قمقم الحكايات بتوجهات ذات خطوات إبداعية موازية بالضرورة لسعيه نحو تحطيم جدران التقوقع الذي يحيط بالطبيعة السردية لمشاهده البصرية فيلجأ إلى التعبيرية التجريدية بجسارة الهارب من مشاكل حيوية قد تؤرق خياراته وحينها لا بد من القليل من السيريالية التي تهذب أعماله في بابه الرمزي.

فرغم أن سعد يكن متجاوب إلى حد بعيد بالواقعية الجديدة، إلا أن هطول علامات من أماكن أخرى لا تعكر جوه العام بل يزيده رونقا وحيوية، فبحثه مفصل جيدا ضمن محاور تهتم جدا بإشارات جميلة ناضجة خاطفة غير متعثرة أبدا، وبهذا يتواصل سعد بمقولات جمالية حديثة تتجانس مع مقارناته التقنية التي تكاد تصبح نوعا من التماس في العلاقات بين دلالات لغته في مفرداتها المختلفة والمتمركزة على توالدات قد توحي بالحاجة إلى تفاعلات شديدة التوافق لتساهم في تأسيس جماليات الصورة لديه فأداته خيالات منشطرة تمكنه وبعنفوان تلك التقنيات تفصيل مواقع أخرى تميزه من بين أقرانه، وبإشارة أخرى سعد يكن يترك الأثر الكبير في تقاطعات متلقيه جميعها تؤكد مشروعية بحثه في عمقها الأبعد من كل الإحالات الموحية.

"أنا أرسم أنا موجود"، قالها سعد يكن مرة فباتت تلاحقه كلما جئنا على ذكره، مقولة تتقاطع مع مقولة فان غوخ إلى حد كبير والتي يقول فيها: مقولة تعني الكثير، وتقول الكثير، وتختصر الكثير، تكاد توجز مفهومه للحياة، وللوجود، وللإنسان، مفهوما أشبه بنظرية المعيار فيها تبيان الكيفية التي بها تغذي أفكاره وطروحاته الخاصة، تبيان الكيفية التي يرتبط بها كل ذلك بشخصيته وظهورها بوصفها ملامح خاصة من ملامح الحياة التي يعيشها، مفهوما أشبه بنظرية حديثة من الواجب أن تزود بضرب سببي من التفسير، خاصة أنها تتسم بالمصلحة المعرفية والجمالية الخاصة التي تجمع تأملاته كلها دون أي التباس، فثمة ما يعززها، وما يعزز تصوراته أيضا، فهو يدرك الوقائع بسعي تحرري، لا تقيده الممارسات الحياتية، ولا تلك المفاهيم التي قد تلح على لاوعيه بالاستيقاظ، فهو يسعى نحو المعرفة التأويلية وما تتسم بها من فروع جميعها تصب ما تحيي المعطيات الإنسانية والإنسان لديه، وقد تكون الوحيدة التي تطرح تفرده، إن كانت في ينابيعه الغزيرة الغنية بالطاقة وبقدر كبير من التمرد، أو في رؤيته المعاصرة المتعلقة بالإنسان والحياة وتغييرهما، فهو مرن مع استنباطاته كموضوعات غير مألوفة ما عدا القيمة الضمنية لكل منها فهي تحوز على رعايته بنسبة أعلى حتى غدت ذرات فاعلة غير معزولة لتحديد هويته الفنية والتعرف عليها.

ومن أجل المزيد من القراءة، المزيد من إلقاء الضوء على أعماله وعلى مختلف المؤثرات التي فعلت فعلها لدى الجيل اللاحق، فهو في الأساس تاريخ للأفكار والاتجاهات التي راحت تشق طريقها وتقدم نفسها كعناوين لسعد يكن، الفنان الذي لا يعنى بالأفكار تلك العناية الجوهرية، ولا يغرق متلقيه بها، فغنى أعماله، وتنامي معلوماته، يجعل من ذلك المتلقي عنصرا مهما من العمل ذاته، لا يتيه فيه وفي فضاءاته، بل يجمع ما تيسر له من لحظات هي بحد ذاتها ضوء آخر يشع من بين مفرداته، ومع ذلك فمتلقيه لا يسارع إلى التكهنات والإستنتاجات تبعا لمزاجه الكئيب أو السعيد، بل يمضي مع الخطوط والتشكيلات التي تميز يكن عن غيره بوصفها مجال تأثير ونفوذ جدير به، يمضي معها بمزيد من التفصيل متجاوزا العقبات الكثيرة نحو تفسيرات وشروحات وتعليقات تكون هي زاده الذي عاد به.

حين يشتغل سعد يكن على موضوع ما، لا يسرع في ذلك، ولا يهرول نحوه، بل يتساءل عنه كثيرا، ويبحث فيه وفي تفاصيله، لا يشتغل عليه إذا لم يضع أصابعه على مفاتيحه جميعها، فهو هنا باحث، إذا لم يلم موضوعه من كل جوانبه، لا يطبخه، ولا يضعه على النار، نعم هو هنا باحث، يجمع كل التفاصيل عنه، ويصبح المشهد أمامه عاريا حين يبدأ، قد يستغرق عمليتي القراءة والبحث أكثر من سنة، يستغرق في ذلك طويلاً وكأنه يقول لنا القراءة التي لا تحرض على تحدي الوضع القائم لا خير فيها ولا يعول عليها، والبحث الذي لا يمنحك أسرار خطواتك لا يستحق هدر الوقت من أجله، جاعلاً منه، أقصد موضوعه كمشروع تخرج حسب قوله، عليه أن يشتغل عليه بروية ودقة وبعقلنة وتوافق حتى يكتمل المولود، فتتمثل الضروب أمام رؤياه، وتكتنف الحالات حب حميمي، وترتدي ملابس معينة وهي تقدم نفسها للعالم كواقعة جديدة تستحق كل الرعاية والاهتمام.

ولهذا نفهم تماما حين نسمع يكن يقول بأنه أصبح كلكامش حين اشتغل عليه في معرض فردي، قدمه حين أدرك حقيقة أمره تماما، وبأنه أصبح شهريار حين اشتغل على ألف ليلة وليلة في معرض فردي آخر، وأصبح المسيح حين قدم أيقونة حلبية حديث في معرض ثالث، وبأنه تردد عاما كاملاً على الكباريه حين راوده فكرة معرض عن الكباريه، أقصد من ما تقدم بأن سعد يكن يعرف تماما أين يقف، ومتى يخطو خطوته، ومتى يتلو آياته، التقصي والمتابعة والاقتراب من جوانب ما سيقدمه كلها، والغوص فيها، حينها يقول كلمته، ويمضي مع ألوانه وريشه، ويبدأ بسرد حكايته، تلك هي أداته التي تروق له، وتلك هي حكمته في إعادة ترتيب مفردات تلك الحكاية وإيماءاتها، ذلك هو صوته الذي به تجاوز الفصول والحدود، سالكا على نحو استراتيجي تماما لكي يحقق النجاح المطلوب.

كلكامش، ألف ليلة وليلة، نساء وطوفان، نحو أيقونة حلبية حديثة، الآخر، الموسيقا، قضية العائلة الفلسطينية، الكباريه، طرب في حلب، .... إلخ، هي ليست عناوين لمعارضه الشخصية فحسب، بل هي عناوين لمشاريع فنية انخرط في إنجازها بجدية عالية، وهذا ما يجعله يرتفع بإنتاجه فوق السياقات العامة التي تحمل افتراضات لتلك السياقات وكأنها هالات تحيط بدوائره التي يبدي فيها استعدادا ما للمخاطرة ببعض أفكاره بوصفها خمائر تشجعه أن يكون معنيا بها لا في مرحلة من المراحل، بل في مراحلها جميعا، فهو في هذه المشاريع المهمة كحلقات بارزة في رحلته الفنية لا يكتفي بكشفها وإبرازها، بل يطلق عنانها لتقول حقيقة ما يفعل وما يجري، على نحو ما يبرر تحديه لكثير من الأشياء التي قد تعترض طريقه في الارتقاء بتنبؤاته وتثبيتها، وفي طريقته في البناء التي بها يصوغ توقعاته وتأملاته، ويمثل ذلك أعلى مرحلة من استغراقاته وهو يمضي في رحلته الجميلة، فهو بالفعل يتجه صوب اتفاق أو توافق مشترك مع منتجه بطريقة تقوم على ربط أجزائه وشظاياه في كل واحد، فمعرفته العالية، ونظرته الواسعة للأشياء، وطريقته في طرحها تجعله يلتقط الأشياء بكامل بزوغها، وتجعل من حدسه حاضرا بقوة، وبأن ما تناوله سابقا قد يحضر ويحصل لاحقا.

هي قراءات لفنان غارق في التفاصيل وتاريخه، فعناصر تكويناته قد تعمل عملها بانسجام وتناغم، وتكمن أهمية ذلك في قدرته على الإدراك، بأن لكل منها واقعها وحضورها المميز، وبأن كل منها مكون من مستويات مختلفة ترتبط بعضها ببعض، كما تكمن أهمية ذلك في التنبؤات بوصفها قراءات فنية جمالية للغد، أي أنه قادر أن يرسم الحدث قبل وقوعه، والكثير من أعماله تقول ذلك، ولكن سنذكر لوحته بيروت بين الولادة والموت، رسمها قبل الحدوث بست سنوات، وكذلك لوحاته عن مرفأ بيروت والانفجار الكبير كان قد رسمها عن الأزمة اللبنانية حينها، قبل وقوع الانفجار بأربع سنوات، وللذكر فقط فهو لم يرسم بعد الانفجار عن الانفجار إلى الآن، فالإطلاق عنده واضح والدوافع هي إقامة صلات جمالية، معرفية بين الظواهر، وبذلك يحقق السيطرة عليها، أقصد على الأشياء بوصفها أشكال معرفية تتسم بقيم مختلفة، بقيم يفترض بها أن تجعل حياتها ذات شأن.

ما يشبه التعريف:

منذ البدء كان سعد يكن مختلفا، منذ البدء كان يبحث عن التغاير، حتى وهو على المقاعد الدراسية الأولى كان يصر أن يكون مختلفا، ألا يشبه أحدا إلا نفسه، نفسه فقط، وربما اهتمامه بالفن جاء من هذا الباب، فانتسب إلى المركز التشكيلي بحلب وعمره لم يتجاوز الثانية عشر، وتخرج منه عام 1964، فهو من مواليد حلب عام 1950، انتسب إلى كلية الفنون الجميلة بدمشق عام 1970، وكان ترتيبه الأول في مسابقة القبول، لكنه تركها بعد عامين بعد أن أيقن بأنها لن تقدم له شيئا، ولن تضيف على ريشته ما يعتقها وما يلهمها نقطة واحدة، ومنذ عام 1965 وهو يشترك في المعارض الرسمية، إلا أن معرضه الفردي الأول كان في عام 1969، في صالة المتحف الوطني بحلب، له تجربة جميلة مع الأطفال المعوقين امتدت لخمس سنوات، أقام أكثر من خمسين معرضا فرديا في سوريا وفي العالم العربي والعالم، وله أكثر من مئة مشاركة في معارض جماعية، عرض مع لؤي كيالي عام 1972 في بيروت المدينة التي سافر إليها ولما يزل فيها بعد حرائق البلاد، وبعد أن استحل السوداويون والظلاميون مرسمه وأحرقوا لوحاته وكتبه، لكن بقيت علاقاته مع الفن من علاقته مع الإنسان، والفن هو علاقة مع العالم، هذا ما قاله ملخصا بها رؤيته ورؤياه للفن والإنسان والحياة والعالم.