لماذا عجز العلم عن صناعة المعجزة الكويتية؟

لم يعد مستغربا أن يقضي البروفيسور والباش مهندس والطبيب وقته وهو يجادل في تويتر، ويسعى لإصلاح العالم من خلال تغريداته العلمية الطيارة.

اذا كان العلم يصنع المعجزات، فلماذا عجر العلم أن يصنع لنا المعجزة الكويتية على غرار المعجزة الماليزية والمعجزة السنغافورية وغيرها؟ واذا كان العلماء مشاعل النور والتقدم فلماذا فشل العلماء والأكاديميين من صناعة دولة متقدمة او تخطو على طريق التقدم؟

هذه الاسئلة باتت تصنف من فئة الاسئلة الملحة في الكويت نظرا لما تشهده البلد من تراجع على جميع الاصعدة في الوقت الذي تتضاعف أعداد العلماء والأكاديميين والخريجين لاسيما خلال ال 30 سنة الاخيرة، بما يخلق حالة من التناقض بين الامرين، فالعلماء يصنعون التقدم، بينما في الكويت يحدث العكس.

وهذا الامر وتحديثاته وابعاده يستلزم البحث خارج الصندوق، ويبدو لي اننا يمكن ان نقدم تفسيرين احدهما تفسير داخلي والاخر خارجي، اما الداخلي فهو ما يمكن تسميته بالقابلية للتخلف، فخلال السنوات الأخيرة انتشرت قناعة مفادها بأن الفساد في الدولة له هيبة وأن التخلف يصعب علاجه، وهو بمثابة القدر الذي لا فكاك منه.

في هذا المسار نتذكر مثلا قناعة القيادات العليا في البلد وبعضا من التصريحات الصادرة من بعض المسؤولين في الكويت عن حجم الفساد واستعصاء علاجه، هذه القابلية افشلت خطط الاصلاح ومساراته، وأدخلت الدولة والمجتمع في دائرة اعادة انتاج التخلف.

اما السبب الخارجي فهو تشوه فلسفة التعليم، اذ لم يعد الافراد يبحثون عن العلم وانما عن المسميات الوظيفية، ولم تعد المعلومة وتطبيقاتها هي الهدف وانما الهدف الاسمى هو تحصيل المغانم سواء في الاموال او المناصب او المشاريع.

هذا التشوه كان من أحد اهم اسباب تصنيف الكويت انها في مرحلة الجمود الكامل، لو اردنا ان نرصد حال الدولة ثقافيا فسوف نلاحظ حجم التراجع في دورها الريادي عندما كان يقال انها بلد مجلة "العربي" وسلسلة "عالم المعرفة"، وسلسلة "عالم الفكر"، و"الثقافة العالمية" و"إبداعات عالمية". ولكنها اصبحت خلال السنوات الاخيرة بلد التغريدات السريعة، وكما وصلني، ومقالات الوجبات السريعة، والمسرح المبتذل، والمسلسلات الهابطة.

ولم يعد مستغربا أن يقضي البروفيسور والباش مهندس والطبيب وقته وهو يجادل في تويتر، ويسعى لاصلاح العالم من خلال تغريداته العلمية الطيارة، ولم يعد شاذا أن تقرأ مقالات في الصحافة الرسمية لا تحمل اي قيمة علمية او فكرية ولكن مجرد تراهات لملئ الفراغ، واصبح طبيعيا ان يقضي السياسيون ايامهم في التنقل بين الديوانيات والملتقيات الاجتماعية، هذا حقهم ولكن من حق الناس ان تتساءل: اذن متى يفكرون ومتى ينتجون؟

ولو أردنا أن نرصد حال الدولة الاقتصادي، فان دولة الكويت اعتمدت على ايرادات النفط بالكامل، وما يقال عن ايرادات غير نفطية هي عبارة عن أنشطة وبرامج تصب لصالح الدولة النفطية وموظفيها، وفي حال توقف النفط على سبيل المثال، فان البلد سيعود قرونا الى الوراء لانه ببساطة سيكون اشد فقرا من كويت ما قبل اكتشاف النفط، فالاسواق والمهارات التي كان يتمتع بها السكان ما قبل النفط لم تعد كذلك.

حولت الدولة السكان الى موظفين خلف مكاتب، يتملكهم العجز عن الاداء الذاتي او الابداع في العمل، فيما تحول التجار الى رعاة مقاهي ومطاعم ومزادات علنية، هذا الاقتصاد الهش والهامشي سيكون مثل الفقاعة في حال توقفت الايرادات النفطية، وكل هذا الكم من الموظفين والتجار الهامشيين لن يكون بمقدورهم توفير مصروفهم اليومي، ببساطة لانهم لا يمتلكون اي مهارات خارج دولة النفط.

اما حال الدولة السياسي فينظر اليه من جهتين فعلى مستوى المواقف السياسية، يتراجع العلم وتتقدم الطائفية والعنصرية والعرقية في اسوأ صورها وتجلياتها، ولا تشفع النظريات العلمية ومفهوم المواطنة واسس تقدم الدولة ومرئيات العدالة الاجتماعية، لتخطى حاجز الانتماءات الضيقة والتقليدية، فهي لا تزال المقياس الاول الذي تبنى عليه المواقف وتتخذ وفقه القرارات.

اما على مستوى التحليل والقراءة السياسية، فالاكاديمية والاستاذية والنخبوية لم تنجح حتى الان في الارتقاء بمستوى النظر السياسي الى درجة التجرد والموضوعية، ولم تفلح الالقاب العلمية في نقل نظريات واراء الفلاسفة والعلماء من الكتب الى الواقع، فالغالب على النخبة هو التحليل وفقا للاصطفاف والتحيز العاطفي او ما يطلق عليه الانحياز التأكيدي، فيكونون هم متحيزون بدلا من ان يقدموا للناس الاستراتيجيات الصحيحة لضبط التفكير والسيطرة على العواطف.

خلال السنوات الماضية صنف الاساتذة انفسهم مع هذا الرئيس او ذاك، ضد الاغلبية او معها، مع الحكومة او ضدها. على الرغم من أن الحاجة كانت ترتكز في ان يساهم الاساتذة بترشيد افكار ومواقف الدولة والجمهور، وان يلعبوا دورا تنويريا في تطوير النظريات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقديم قراءات مختلفة ترفع من مستوى الوعي العام، لكن ذلك لم يحدث مطلقا، ما حدث ان العلماء يضعون علمهم على الرف ويتعاملون في الشأن العام بالجهل.

اذا اريد للدولة ان تتقدم، فيجب ان نعيد الاعتبار للعلم، وان تتحيز النخبة الى المعرفة، ينبغي ان تكون الآراء العلمية حاضرة في الساحة وليس في الكتب والمجلات، ان تنعكس في تعاملاتنا اليومية، وعند اتخاذ المواقف، وحين قراءة الاحداث وتحليلها، حتى يلعب الاكاديمي والمثقف دوره الطليعي في قيادة الساحة، بدلا من ان يركنا عقليهما في المرآب.