مقتدى الصدر.. تنقيح الهوية بـ "الوطنية الشيعية"

الخطاب السياسي الشيعي لأغلب الاحزاب والحركات الاسلامية ولد دون ان يحمل اي خصوصية عراقية.

أكثر من عقدين على الغزو الأميركي للعراق الذي اطاح بدكتاتورية حزب البعث، ولا تزال الجماعات السياسية الشيعية تتناوب في توزيع معادلتها فوق الوطنية وتحت نفوذ فصائلها المسلحة، ولجانها الاقتصادية، ورقابة من الجارة إيران التي تستغل "صمت النجف" للتأثير على القرار الشيعي الداخلي من دون ان تقف عند احترام الحياد الاقليمي او سيادة العراقيين على انفسهم.

هذه الجماعات خلقت طيلة وجودها في المساحة السياسية اسلوب خاص تتعاطى من خلاله مع النظام والحكم في العراق عبر توطين نفوذها في الدولة والنمو في مؤسساتها بطرق غير وطنية، وظلت طيلة الفترة الماضية متنقلة بين ولاءات خارجية متلبسة بهوية "شيعية" خالية من اي ولاء للشيعية العراقية.

كل ذلك يحدث بشكل علني وبلغت مراحل الصراحة فيه ان تعلن منظمة مثل "بدر" التي تستحوذ على مواقع وزارية ونيابية تحت مظلة النظام العراقي عن ثوابتها بتاريخ 24 كانون الثاني/يناير 2024 بالقول: "ان الموقف تجاه الجمهورية الاسلامية الايرانية ينطلق من وحدة العقيدة والولاية، والارتباط المصيري"، متابعة ذلك بالتنصل عن بعض ما اسمتهم بـ"البدريين العاملين في مؤسسات الدولة"، وأشارت بتلميحها هذا الى معارضتها ادانة القصف الصاروخي الايراني على اربيل من قبل قاسم الاعرجي مستشار الامن الوطني والعضو البارز فيها سابقا! وبمثل هذا تتوسع إيران كدولة عنيدة بمصالحها القومية في العراق حيث يقابلها اذرع سياسية تعيش حالة العجز عن إكتشاف دولتها.

بتنقيب بسيط ينكشف للشيعي في الداخل ان ارادة قوى السلطة لا ترفض تأثير كل اميركا وايران على قرارتها الوطنية دفعة واحدة، فهي ممانعة للوجود الاميركي لكنها تصرح بالتبعية لاسباب هذا الوجود وهي ايران واذرعها.

ان الخطاب السياسي الشيعي لأغلب الاحزاب والحركات الاسلامية ولد دون ان يحمل اي خصوصية عراقية بالرغم من قدرته على تحديد توجهاته، و2003 بوصفه اهم فرصة لتعزيز الهوية الجديدة، كان بالإمكان ان يشكل منعطفا تاريخيا لصالح حكم اغلبية شيعية ينفرد بتصحيح قناعة الكثيرين ممن كانوا يخشون ان يكون النموذج الايراني المعزول جار ملاصق لحدودهم.

وبموازاة اختفاء ملامح الخطاب الوطني للاحزاب الشيعية اكتشفت النجف كونها مركزاً دينياً للشيعة في المنطقة والعالم مخاطر التبعية السياسية هذه في اوقات مبكرة بعد التغيير، واستمرت بالنصح والارشاد ثم الاعتراض والاستنكار الى ان بلغ احتجاجها مرحلة اللجوء الى الصمت واغلاق الباب نتيجة احباطها من عدم وجود اذن صاغية ممن يتحكم بالبلاد.

ففي مقابلة مع مجلة بولندا الاسبوعية في آب/أغسطس من عام 2003 اكدت المرجعية مخاوفها الشديدة من "خطر محو ثقافة البلد الدينية والوطنية". ولعل ابرز من لخص ملامح مشروع السيستاني في تحصين وحماية "الوطنية الشيعية" بشكل توضيحي هو حامد الخفاف مدير مكتبها في لبنان، ونشره موقع "شفقنا" بتاريخ 12 أيلول/سبتمبر عام 2019 جاء فيه: "إنّ المرجعية العليا لا تتدخل في تفاصيل العمل السياسي بل تترك المجال واسعاً للقوى السياسية للقيام بذلك، وإنما تتدخل في القضايا المصيرية التي تعجز القوى السياسية عن التعاطي معها أو تقديم حلول مركزية لها، وإنَّها تؤكد على احترام مؤسسات الدولة المنبثقة من خيارات الشعب التي لا بديل عنها بتاتاً لقيام وطن حر ومستقل وسيد، وهذا يسري على كافة القطاعات العسكرية والأمنية والسياسية والإدارية والاجتماعية وغيرها".

وباعتباره الزعيم الأهم في معادلة الشارع والعملية السياسية وبما يمتلكه من ولاء كبير ومطيع وملتزم، لم يكن تبني السيد مقتدى الصدر للتيار الوطني الشيعي وليدة اللحظة، بل جاء امتداداً لنهج اوجدته النجف لنفسها عقب تغيير النظام السابق في العراق عام 2003.

ان تمسك الصدر بمطالب إصلاح العملية السياسية ومحاربة الفساد منذ العام 2011، أجبر مسار العملية السياسية على احترام إرادته في كل خطوة لتشكيل الحكومة أو إصدار القرارات، اما اهم متغير في مرحلته هو ما انعكس بانسحابه من العملية السياسية عام 2021 نتيجة اقتحامه لمعادلة التوافقية واستبدالها بالأغلبية الوطنية وسرعان ما تصاعدت ضدها التوترات بشكل حاد داخل المنطقة الخضراء المحصنة لتنتهي بالتضحية بأكبر المقاعد النيابية التي تجاوزت الـ 70 عبر الانسحاب.

وتزايد حراك زعيم التيار الصدري السيد مقتدى الصدر خلال سنوات اعتزاله السياسي، خصوصاً مع تكثيف بياناته، سواء ذات الطابع السياسي أو الاجتماعي، وعلى رغم الطابع العقائدي الذي غلبت عليه مواقفه، فإنه لم يتخلِ عن تمرير تلميحات سياسية، سواء لجمهوره أو خصومه، وتحديداً الفصائل والأحزاب التابعة لإيران، من خلال استخدامه مرة عبارات "التبعية" و"الأيادي الخارجية"، و"المهادنين"، و"الفاسدين" وهي مفردات لطالما يلجأ الصدر اليها في الاشارة الى الجماعات الموالية للخارج.

وتزامن مع اعتزال التيار الصدري للفعل السياسي ظهور ما سمي "أصحاب القضية" الذين ادعوا أن السيد مقتدى الصدر هو "المهدي المنتظر"، الأمر الذي واجهه زعيم التيار بالبراءة الشديدة، وكان يراد بذلك ان يُستدرج من قبل خصومه الى "حرب عقائدية"، وهو سرعان ما استدعى الصدر الى الظهور في موقف مرفق بصور جديدة داخل مرقد والده، يقول فيه "الحرب السياسية تحولت إلى حرب عقائدية فهذا ديدن الفاسدين والمنشقين"، وتابع الصدر "إن رضيتم بي قائداً إصلاحياً غير مجتهد ولا معصوم ولا أمام فأهلاً بكم، وإلا فهذا فراق بين وبينكم إلى يوم الدين". وهنا لعل الصدر وجد نفسه مسؤولا عن الرد على دعاية سياسية يروجها خصومه من داخل الاطار التنسيقي من ان "القيادة" تستلزم الإجتهاد او التبعية للمجتهد! لقد كانوا يحاولون اثارة أي مؤشر على التصدع داخل أجواء التيار الصدري واستقطاب الشخصيات التي تحمل عناوين صدرية، لكنهم فشلوا بذلك، بالنتيجة فان الصمت السياسي الذي مارسه التيار لم يكن نهاية حراكه، خاصة وأنه اعتمد على مساحة اجتماعية وسلمية للرد على خصومه من خلال تحريكه لخيار مقاطعة انتخابات المجالس المحلية دون اللجوء الى الممانعة او العنف اذ ساندته وايدته حركات سياسية شبابية وجماعات اخرى وطنية استطاعت ان تجعل من يوم الاقتراع يوما للمقاطعة الاحتجاجية تم فيها معاقبة النظام وادواته بالبراءة الشعبية الكبرى.

في التاسع والعشرين من آب 2022 قال السيد مقتدى الصدر في بيان له عقب اعلان مرجعية الحائري اعتزالها واسقاط جميع الوكالات والاذونات الشرعية "أن النجف هي المقر الأكبر للمرجعية كما هو الحال دوماً". هذا الموقف كان كافياً لتعزيز موقعه في الحوزة الدينية، وصولاً إلى بلوغ مرحلة اعلان الهوية الوطنية الخاصة به، وهو ما أعلن عنه بشكل اوضح الان من خلال تبنيه لـ "التيار الوطني الشيعي" بعد صوم سياسي لمدة عامين، ليعود معه طرح زعامة دينية واجتماعية وسياسية للتيار وهذه المرة بإشارة واضحة الى الشيعية العراقية ومركزها النجف الاشرف.

لقد كانت تحركات الصدر الأخيرة محسوبة بعناية وهي تعيد الحيوية للأجواء الاجتماعية والوطنية المناصرة لتياره المُعتزل والبعيد عن السياسة التقليدية، ومن خلال حضوره اليومي في ازقة النجف خلال الاسابيع القليلة الماضية كان يريد القول انه لن يتجاوز على مساحتها العقائدية والاجتماعية والسياسية، كان رد مبتكر منه لمحاولات سحب الغطاء المرجعي عنه والتأثير على القواعد الشعبية او قيادتها قبل الانتقال الى جرها لخارج اسوار العراق وتحديداً ايران وولايتها العامة، فالنجف لن تزاح من منهج الصدر والصدريين وتبقى هي مكان الريادة الدينية والوطنية لهم ولشيعة العراق والعالم.

بموازاة ذلك كانت حسابات الكترونية ممولة وتابعة لقوى وشخصيات في الاطار التنسيقي تستفز اجيال ناشئة في التيار الصدري عبر نشر رأي ديني للمرجع الفياض ورد فيها "تقليد الميت ابتداءً مشروط بشروط لا يتمكن العامي من إحرازها بل ولا بإمكان الطلبة من إحرازها"، وهو ما اعتبرته القاعدة الصدرية بمثابة استهداف لهم، ومحاولة لإبقائهم من دون مرجعية دينية.

المفارقة ان الماكنة الاطارية والولائية تغافلت ان السيد الخامنئي نفسه لا رسالة عملية له ويجيز العمل بتحرير الوسيلة للسيد الخميني ابتداءً إلا بالمستحدثات، ونسوا انهم فئة خاصة كانت تحذرنا قبل عامين من ضياع المكون الأكبر على يد الصدر و"رغباته" بالأغلبية، في حين انهم لم يتورعوا عن التقريع والتوهين بأكبر فاعل اجتماعي شيعي في العراق كالتيار الصدري وجعله عِرضة للتصدّع والضعف!

وبصورة اساسية لم يُترك الصدر في عزلته السياسية خارج معادلة الصراع الديني، وتفاقمت مراحل الاستقطاب ضده الى المستوى الذي كان يُفترض أن يسبب ثلمة بين جيل أكبر سنا، وجيل شاب من الاتباع الصدريين لم يكن قد عاصر بعد عهد المرجع الوالد السيد محمد محمد صادق الصدر.

في المقابل، لم يحاول بيت المرجع الاعلى السيد السيستاني استخدام الطريقة المعلنة من قبله والتي سادت موقفه في غلق الباب بوجه الزعماء السياسيين. فالباب بقي مفتوحاً امام السيد مقتدى الصدر الى لحظة كتابة هذا المقال، فيما أخذت المؤسسات التابعة للمرجعية طريقاً واضحاً في تنمية التعامل بشكل مباشر مع هذا الوضع عبر تقوية دور العتبات المقدسة في كربلاء والنجف واجنحتها العسكرية المستقلة عن الحشد وغير مع قوة سرايا السلام الجناح العسكري الصدري المسؤول عن أمن مدينة سامراء من التنظيمات الإرهابية. فقابل الصدر هذا التواصل العميق بدعوة قواعده إلى الاندماج في الزيارات والمناسبات الدينية والاجتماعية مع سائر المؤمنين من دون أي مسمى غير الإسلام والمذهب والوطن إلا من "أفسد" و"ظلم" و"هادن".

وهو يرى ويراقب الدولة تتمزق بجماعات لا تشبهها، صرح السيد الصدر مؤخراً عن وجهته من خلال التيار الوطني الشيعي الذي لا تنازل فيه عن حدود العراق ولا يميز الشيعة في الداخل بأي تمييز خاص عن هويتهم الوطنية او ما يراد لهم ان يكونوا وقوداً لغيرهم، تجمعهم جغرافية وطنهم لا جغرافية العقائد، منهم المؤمن بأيديولوجيات مختلفة، ومنهم الاسلامي ومنهم اليساري ومنهم الليبرالي، فالوطنية تضيف لموقع ومقام الشيعي الإندماج في مجتمعه مع باقي المكونات والشرائح الإجتماعية، ولا تمحو ثقافته وحقيقته. انها مرحلة التحشيد للمكون الاجتماعي الاكبر الذي يجتمع فيه شيعة العراق بدوافع عراقية قح، دون ان تعيقها "اقلية" التحالفات التي خسرت وتخسر مصداقيتها من شيعة الوسط والجنوب.