إثيوبيا واختراع الطرف الثالث

تكاد الحكومة الإثيوبية تفقد رشدها مع كل خسارة داخلية أو خارجية تتكبدها، ومع كل عملية تدقيق في إداراتها.
المسؤولون في إثيوبيا مقتنعون بالحكمة التاريخية: إذا أردت أن توحد شعبا فاصطنع له عدوا خارجيا
النفخ الاعلامي الاثيوبي في مسألة الطرف الثالث يستهدف إبعاد الانظار عن أزمات أديس أبابا المتراكمة
التلميح بوجود دور مصري مباشر في تفجير حدود السودان واثيوبيا يوحي وكأن الأزمة غير موجودة

في كل مشكلة داخلية أو إقليمية تواجهها الحكومة الإثيوبية ترمي التهمة على طرف ثالث للتنصل من المسؤولية. مع احتدام الأزمات تحول هذا الطرف من مجهول إلى معلوم. بدأ بعض المسؤولين في أديس أبابا يشيرون إلى مصر صراحة.

حدث ذلك في أزمة المظاهرات التي اندلعت في العاصمة الصيف الماضي، والحرب في إقليم تيجراي، والسخونة على الحدود مع السودان، وقبل كل ذلك مع أزمة سد النهضة.

أدى نفخ وسائل إعلام إثيوبية في مسألة الطرف الثالث، إلى تسليط الضوء على مصر وتجاهل الأزمات المتراكمة التي تواجهها أديس أبابا، في محاولة لرمي الكرة في ملعب خصم يتصور المسؤولون في إثيوبيا أن هناك من يصدقهم بسهولة، ويمكن أن يصرف عنهم تبعات المشكلات الناجمة عن خطأ في التوجهات الداخلية.

تحدث البعض تارة عن مشاكل داخلية قديمة في مصر وتم صبغها بطعم سياسي يتناسب مع مزاجهم، وغرد سفيرهم بدولة الإمارات الشقيقة ملمحا إلى أن مصر تحرض السودان على استرداد أراضيه المحتلة بالقوة، واستقبل سفيرهم في الخرطوم كاتبة سودانية إخوانية ينضح قلمها حقدا على مصر، ودرجت على التطاول جذبا للانتباه إليها ولم تتحصل عليه، في مكايدة سياسية مكشوفة.

لم يحقق اختراع الطرف الثالث غاية الحكومة الإثيوبية، فلا الأوضاع هدأت وجرى حل الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ولا صمتت المعارضة عن توجيه سهامها لمن تسببت سياساتهم في هذا التدهور.

ولم تخرج مظاهرات تهتف بحياة رئيس الوزراء وتعفيه من المسؤولية، وتثمن دوره في فضح مؤامرات مزعومة على الدولة الإثيوبية دون أن يقدم أدلة ملموسة عليها، ما يحسب عليه وليس له.

زادت حدة الانتقادات لتصرفات الحكومة المركزية التي علق عليها قطاع كبير من الموطنين آمالهم في الخروج من أزمة الحكم الفردي، إذا بها تعيد إنتاجه بطريقة أكثر بؤسا، وفشلت في حل التناقضات بين المناطق الرئيسية، بعد أن تورطت في حرب مفتوحة داخل تيجراي، وضاعفت من الهوة بين الأقاليم المختلفة، ونكأت جراحا عميقة قد تهدد وحدة دولة تتكون من موزاييك اجتماعي خطير.

فضح تقدم الجيش السوداني لاسترداد أراضيه ضعف الخطاب الإثيوبي المناور، ففي الوقت الذي ادعى مسؤولون عدم الانسحاب من هذه الأرض والتمسك بالبقاء فيها، أشار السودان قبل أيام إلى أن رئيس الحكومة آبي أحمد وعد بتسليم الأراضي المحتلة منذ عقود، ضمن خطة عمل اللجنة المكلفة بحل أزمة الحدود بين البلدين.

جاء من تحدثوا عن دور مصري مباشر في تفجير الحدود المشتركة، كأن الأزمة غير موجودة أو مختلقة، والتلميح إلى أن الجيش السوداني لم يهب من تلقاء نفسه للدفاع عن بلاده.

فوق كل هذه المعطيات لم تنكر القاهرة وقوفها بجوار السودان في الدفاع عن مصالحه وحقوقه المشروعة في سياق أطر تعاون مختلفة، تشمل الكثير من المجالات، ودون أن تكون إثيوبيا محرضا للتقارب، فالقواسم المشتركة بين البلدين عديدة وممتدة ودخلت مرحلة تصويب المسارات عمليا.

يدين الحديث عن تحميل أي جهة مصائب إثيوبيا حكامها أنفسهم، فإذا كان الطرف الثالث قادرا على تحريك كل هذه الأزمات دفعة واحدة وخلخلة الأرض تحت أقدامهم داخليا وخارجيا، فهذا يعني أن هؤلاء الحكام عاجزون ومخترقون ولا يستطيعون تحمل مسؤولية دولة في حجم إثيوبيا، وتخفيف المعاناة عن مواطنين يتطلعون إلى المستقبل.فلماذا كل هذه الغطرسة الطاغية في الخطاب السياسي؟ ولماذا تكرار الكلام عن طرف ثالث أو رابع لا أدلة حقيقية؟

الإجابة أن هذا الطرف جرى استحضاره لتبرير الإخفاقات المتتالية، وسوف يظل حاضرا كلما ضاقت التصورات السياسية في الرد على البراهين التي تؤكد عدم ثقة الحكومة في منهجها العام.  

يبدو أن المسؤولين في إثيوبيا مقتنعون بالحكمة التاريخية، التي تقول إذا أردت أن توحد شعبا فاصطنع له عدوا خارجيا. الأمر الذي فشلت فيه أديس أبابا، حيث اختارت أن يكون هذا العدو مفتعلا بحجج واهية، فأخفقت في تسويقه سياسيا، فلا تاريخ مصر يميل إلى هذه النوع من الممارسات، ولا توجهاتها الحالية تتبنى مناوشات سياسية تشغلها عن مهامها القومية.

كما أن الدفاع عن الحقوق المصرية في أزمة المياه له طرق قانونية واضحة تسلكها القاهرة وتتمسك بها، ولم تحد عنها في أحلك فترات التفاوض قتامة. وإذا عجزت فهناك خيارات يمكن طرقها مباشرة للدفاع عن الأمن القومي، ليس من بينها التآمر على إثيوبيا أو تخريبها من الداخل والخارج. فالعالم اليوم يصعب أن يخفى عليه شيء.

راهنت مصر على رفض السودان الطريقة الإثيوبيا، لأن المشروع محمل بتداعيات سلبية عليه، وكسبت الرهان. فقد أصبحت الخرطوم أكثر حدة في رفض سلوك أديس أبابا في مفاوضات سد النهضة.

وأشد تصميما على التوصل إلى اتفاق ملزم يحل كل القضايا المختلف حولها، ويتحدث المفاوض السوداني الآن عن خسائر جمة تلحق الأذى بالبلاد مع اكتمال هذا السد، ما يوفر مبررات منطقية للوقوف في وجه أديس أبابا، فالسودان بلد مستقلة ويعرف آليات الدفاع عن مصالحه جيدا.

لذلك لم تعد الوساطة الأفريقية أو المتعاطفين مع خطاب إثيوبيا سابقا، يلتفتون إلى الاتهامات الباطلة الموجهة لمصر، وأنها تعرقل رغبتها في التنمية والخروج من دائرة الفقر، وهو الخطاب الاستهلاكي الذي يستخدم لدغدغة مشاعر بعض القوى الدولية.

بدأت ملامح مراجعة للموقف الإثيوبي والتشكيك في أدواته، تجلت في تقليص المساعدات من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والبقية قد تأتي قريبا، إذا صممت أديس أبابا على المضي في غطرستها.  

تكاد الحكومة الإثيوبية تفقد رشدها مع كل خسارة داخلية أو خارجية تتكبدها، ومع كل عملية تدقيق في إداراتها، ما جعل اللجوء إلى الطرف الثالث عملية غير ذي جدوى، وبات العزف عليها نغمة مشروخة، لأنه يظهر ضعف المايسترو وقلة حيلة العازفين، وقوة الطرف الثالث الذي استطاع أن يكبد هذه الدولة كل هذه الخسائر بدون طلقة واحدة.