الآن فهمنا ما حدث في سيناء

مع أول دعوة إسرائيلية لتهجير الغزيين نحو سيناء اتضحت أهمية استراتيجية القيادة المصرية في جعل سيناء عامرة بالحياة والتنمية ببنية تحتية أمنية متماسكة. هذه أرض مصر وليست أرض خلاء تنتظر مؤامرة إسرائيلية.

تحمل الحرب الجارية على قطاع غزة من قبل الجيش الإسرائيلي الكثير من العبر العسكرية والسياسية للفلسطينيين والعرب، لكنها بالنسبة لنا تحمل دروسا مهمة لإجراءات اتخذها النظام المصري في سيناء السنوات الماضية ولم يتم شرح دوافعها بطريقة وافية، وربما أساء البعض تفسيرها واختزلوها في نواح عاطفية تتعلق بأضرار مادية تكبدها أهالينا في سيناء، لا تساوي شيئا أمام ما يتم التخطيط له.

الآن فهمنا ماذا جرى في سيناء من إعادة ترتيب صارم للبنية التحتية الأمنية على الحدود المصرية مع غزة، وضبط كل أنواع الانفلات والفوضى التي سادت في سنوات سابقة، وإنهاء ظاهرة الأنفاق بين رفح المصرية ونظيرتها الفلسطينية، ولماذا تم نقل البعض من سكان شمال سيناء الى أماكن متفرقة وتعويضهم ماديا.

كشفت حرب إسرائيل على غزة عن وجهها القبيح. فلم يتردد كبار قادتها السياسيين والعسكريين في الحديث عن تهجير فلسطينيي غزة الى سيناء، وكأنهم تركوا لعناصر حماس الفرصة لدخول المستوطنات وقتل مجندين ومدنيين وجر أحياء منها الى غزة في مشهد خيالي لأجل خلق ذريعة أخلاقية لتفريغ القطاع من سكانه ودفعهم الى دخول الأراضي المصرية عنوة، فقد سدت إسرائيل جميع الخيارات الإنسانية أمامهم.

الآن فهمنا لماذا تمكنت القيادة المصرية مبكرا من التوصل الى تفاهمات مع إسرائيل وإقناعها بشأن تعديل بعض بنود اتفاقية السلام، كي تتمكن قواتنا المسلحة من زيادة أعدادها في عمق سيناء، والمناطق التي قوضت اتفاقية كامب ديفيد الوجود العسكري المصري فيها. فقد قرأت القاهرة الخريطة ورسمت خطوطها بما يخدم الأمن القومي، قبل أن يرسم آخرون خرائط إقليمية جديدة ويعملون على فرضها على المنطقة.

الآن فهمنا التصميم على خوض الحرب على الإرهاب التي كانت مكلفة للأجهزة الأمنية المختلفة، ولماذا الإصرار على اجتثاث المتطرفين من جذورهم، فوجودهم في سيناء يعني إرباك التوجهات العسكرية الرامية لفرض السيطرة تماما على هذه المنطقة الحيوية، ومنع أي عبث يمكن أن تقوم به عناصر إرهابية وعقائدية لا تؤمن بقداسة الحدود الوطنية، ولا يهمها سوي تحقيق مكاسب لحركاتها وجماعاتها الأيديولوجية.

الآن فهمنا أسرار الاهتمام الكبير بتنمية سيناء وإنشاء مشروعات قومية عملاقة وتشجيع المستثمرين على توجيه المزيد من استثماراتهم الى أقصى منطقة في سيناء، ولماذا تم تقديم إغراءات مادية ومعنوية لكثير من المصريين لتشجيعهم على الذهاب الى هناك. فكثافة البشر أحد أهم عناصر الدفاع عن الأمن القومي في الأعراف الدولية، وإن ضربت إسرائيل عرض الحائط بها في غزة لن تستطيع ممارسة الدور نفسه مع سيناء، فهناك بشر وجنود ومعدات وقيادات عسكرية يقظة، وحسابات إستراتيجية دقيقة لما يمكن حدوثه في المستقبل.

الآن فهمنا أسباب الحرص على تطوير ميناء العريش البحري، وبذل جهود كبيرة لإنجازه خلال فترة وجيزة، وتشجيع دول عديدة على استخدامه في نقل بضائعها من أوروبا الى إفريقيا وآسيا، فشبكة المصالح الدولية التي يمكن أن يخلقها هذا الميناء بالتكاتف مع منطقة شرق قناة السويس الاقتصادية كبيرة، وتفرض الدفاع عنهما من خلال الحفاظ على معادلة الأمن والاستقرار في سيناء.

الآن فهمنا الدواعي الخفية التي حتمت على النظام المصري ربط شمال سيناء بجنوبها، وربط البحرين المتوسط بالأحمر، عبر خط سكك حديدية وطرق برية ممهدة، فالفراغ السكاني الذي عاشته سيناء أغرى إسرائيل بالتفكير في وطن بديل للفلسطينيين، والعودة لمخططات سابقة وضعت سيناء ضمن بنك أهداف من رسموا خطوطها.

لم يكن تسريب سيناريو تضييق الخناق على فلسطينيي غزة غائبا عن تفكير القيادة المصرية، قد يكون أحد المحددات الرئيسية التي دفعت الرئيس السيسي نحو إعادة هندسة خريطة سيناء جغرافيا واقتصاديا وأمنيا الفترة الماضية.

والمفاجأة التي يعتقد فيها البعض ليست بمفاجأة على إطلاقها، حيث ظهرت ملامحها عندما اشتعلت الحرب في ليبيا ونجحت القاهرة في التعامل مع تداعياتها وأغلقت غالبية المنافذ والأبواب التي يمكن أن تزعج الأمن المصري، ثم ظهرت ثانية مع اندلاع الحرب في السودان وتمكنت القاهرة من رسم صورة واضحة لخطواتها المقبلة والحد من الخسائر التي يمكن أن تتكبدها الدولة.

الآن فهمنا، لماذا لم تلجأ مصر الى الخيار العسكري المباشر في كل من ليبيا والسودان، وقبلهما إثيوبيا بعد أن أقدمت على تحركات استفزازية لتشييد سد النهضة، ولماذا يتم التمسك بالحلول السياسية في التعامل مع الأزمات الإقليمية. يبدو أن الهدف كان دائما مصر، كما وصف الزميل الصحفي أحمد الطاهري ما يحدث في غزة منذ الإعلان عن إطلاق الرصاصة الأولى في هذه الحرب. تحتاج هذه المرحلة المزيد من تكاتف المصريين حول قيادتهم وجيشهم، فما يخطط لسيناء مباشرة أكثر ذكاء، والغرض خلق أمر واقع يصعب مقاومته من جانب القاهرة، يستخدم أدوات إنسانية ووسائل سياسية، ولا يساورني وغيري من المهتمين بما يجري للقضية الفلسطينية أن المؤسسة العسكرية المصرية قادرة على تجاوز أي مخططات خبيثة، فقد ظهر المجتمع الدولي عاريا في الحرب التي تقودها إسرائيل، ووفر لها الدعم السياسي اللازم ومنحها الضوء الأخضر لعدم التوقف عند حدود معينة.

لم تكن الحروب التي خاضها العرب ضد إسرائيل نزهة للجيش المصري، فقد قدم تضحيات في جميع الحروب، ولن يتردد في تحمل المزيد في المستقبل، دفاعا عن الأمن القومي العربي، لأنه من صميم الأمن المصري في الحرب الجارية على غزة، وما تنطوي عليه من روافد إقليمية، قد تكون كفيلة بقلب الطاولة على من راهنوا على رسم خرائط المنطقة بمفردهم وعلي حساب المصالح العربية.