الكلام الصارخ بين مصر وإيران
عندما كتبت في جريدة "العرب" مقالا في الأول من يونيو الجاري بعنوان "الكلام الساكت حول مصر وإيران"، امتدحه البعض وانتقده آخرون، ولم أكن أعلم أنه في اليوم التالي للنشر سيقوم وزير خارجية إيران عباس عراقجي بزيارة القاهرة، ويلتقي كبار المسؤولين فيها، ويتم التباحث في قضايا حيوية تهم البلدين، ما جعل بعض الإشارات والاستنتاجات التي تطرقت إليها خرجت من إطار الكلام الساكت إلى الصارخ، فهذه واحدة من الزيارات القليلة التي تم فيها التطرق بوضوح إلى الكثير من الملفات ذات الاهتمام المشترك بين مصر وإيران.
لم يعد الغمز واللمز والتلميحات من الأمور المجدية عند التطرق إلى التفاعلات بين الدول، فمن السهل على أيّ مراقب استشفاف الدفء أو الفتور، والتحسن أو التوتر، في زيارات كبار المسؤولين، عبر التوقف عند بعض التصريحات وتحليلها، وربما الجولات الميدانية الشعبية، والأخيرة توسعت في قاموس الدبلوماسية المصرية مؤخرا.
فعندما أرادت القاهرة توصيل رسالة دفء من خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أبريل الماضي، اصطحبه الرئيس عبدالفتاح السيسي في جولة بحي الحسين الشعبي في وسط القاهرة، وتجولا وسط المواطنين بما يشير إلى أريحية سياسية.
وهو ما حدث مع عراقجي في زيارته الأخيرة إلى مصر، حيث زار الحي نفسه بصحبة ثلاثة من وزراء خارجية مصر السابقين وكأنه بات تقليدا مصريا – إيرانيا متفقا عليه، ففي زيارة أخرى لعباس عراقجي تمت في أكتوبر الماضي قام الرجل بارتياد أحد محلات الكشري في القاهرة، وهو من أشهر الأكلات الشعبية في مصر، للخروج قليلا من الإطار الرسمي، وتعزيز صورة الدفء بين القاهرة وطهران، وترسيخ القناعات بأن هناك مرحلة جديدة ستتم بلورتها في العلاقات بين الجانبين.
قد لا يكون الكثيرون في حاجة إلى صور وفيديوهات ولقطات كرنفالية، لكن درجت الدول التي تخترق بعض الثوابت التقليدية أو تغير من أنماط علاقاتها على أن يكون التغيير تدريجيا، وعبر رسائل غير مباشرة في البداية، كتمهيد لمرحلة مختلفة عمّا سبقها.
وفي كل الحالات لم تعد مصر أو إيران تحتاج إلى التفافات أو حذر للإعلان عن بدء صفحة جديدة في العلاقات بينهما، فالحسابات الإقليمية التي كبّلت القاهرة فترة طويلة وجعلتها تتريث في تطوير علاقتها بطهران تغيرت، ورؤيتها حول إمكانية التعايش معها غير مستحيلة، وأصبحت نتائج السنوات الماضية التي لم تقترب فيها إيران بسوء من المصالح المصرية المتفرقة كفيلة باستعادة الثقة بها من قبل القاهرة.
ورغم انفتاح إيران على الكثير من دول المنطقة، غير أن بعض الهواجس لا تزال تتملكها حتى الآن، ووجدت في مصر ركيزة مهمة، اتساقا مع ما يجمع بينهما من تهديدات وتحديات إقليمية، وربما يسهم التقارب في هذه اللحظة الفارقة في تقليص الأزمات التي يمكن أن يتعرض لها كلاهما منفردا، ما يثمّن ما حدث من نقاشات في وقت سابق، ويخرجه من الشكل السري ويدفعه ليتخذ شكلا علنيا.
ولم تعد طهران من المحرمات أمام القاهرة، أو من العواصم التي يجب أن يكون الاقتراب منها حذرا، فاللقاءات والاجتماعات التي تمت في مناسبات إقليمية ودولية خلال الفترة الماضية كانت كفيلة بكسر ما تبقى من جليد متراكم، وطي صفحة قاتمة طويلة بين البلدين، ومناقشة شكل العلاقات بصوت مرتفع.
يمكن التأريخ لزيارة عباس عراقجي إلى القاهرة في الأول من يونيو الجاري بأنها أول لقاء يتناول بوضوح شكل العلاقات بين مصر وإيران، ويتطرق إلى قضايا جوهرية في المنطقة، من توابع الحرب على قطاع غزة إلى تداعيات التهديدات في البحر الأحمر، مرورا بملف منع انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، والذي أوحت مصر بأن إيران لا يجب أن تكون المستهدفة الوحيدة منه، في إشارة إلى فتح ملف إسرائيل أيضا، وفي هذا الخضم قد نرى تنسيقا بين القاهرة وطهران، بما يشير إلى أن زيارة عراقجي الأخيرة يمكن أن تصبح نقطة ومن أول السطر.
بكلام آخر، تفتح صفحة بين البلدين انتظرتها إيران، وتلكأت فيها مصر لأسباب عديدة، بينها عدم حدوث خلل في علاقات القاهرة الإقليمية والدولية، وبعد أن ظهرت معالم سباق في ترتيب أوضاع المنطقة بما لا يتواءم مع أهداف مصر، قامت الأخيرة باستدارة كبيرة حيال إيران، لإجبار من يسعون لتقزيم دورها إلى إعادة التفكير في رؤيتهم وتصحيحها بشكل يفضي إلى عدم المساس بمصالحها، أو مجابهة تحول جيوسياسي لم يكن موضوعا في الحسبان، فتطوير العلاقات بين مصر وإيران يجرّ معه تطويرا موازيا مع الصين وروسيا، وربما تركيا، وما ينطوي عليه ذلك في المستقبل من تغيّر في منظومة التفاعلات الإقليمية.
تنتبه بعض الدول في فترات الريبة والتوجس والقلق إلى تمديد جسور العلاقات على أكثر من مستوى وأكثر من دولة، ولا يتم حصرها في النطاق الاقتصادي أو العسكري، أو في دولة، وهي حصيلة نتائج تجارب مرّ بها العالم في السنوات الماضية، ودفعت دولا عدة إلى اليقظة، وفي حالة مصر وإيران تبين لهما عدم وجود وجاهة كبيرة للقطيعة بينهما، وأن الحد من تطوير العلاقات يعمل لحساب لخصوم الطرفين، وضرورة التخلي عن منهج الكلام الساكت والذهاب مباشرة إلى المباح، لأن استمرار التكتم يعني الخوف والتردد وعدم اليقين، وفقدان الثقة بالجدوى المعلنة.
يشير مردود العلانية في الحالة المصرية – الإيرانية إلى مكونات القوة واليقين والديمومة، والعكس صحيح، ما جعل الحديث عن تطور أو تحسن في العلاقات بين القاهرة وطهران يخرج من إطار الاستنتاجات والتخمينات، ويستقر عند إطار المعلومات الحقيقية التي لا تحتمل لبسا أو حذرا أو قابلية للضغوط، فمن هم على علم بديناميكية العلاقات بين البلدين لم يشهدوا مثل هذه الحرارة السياسية من قبل، ما يزيد القناعات بأنها دخلت مرحلة مختلفة عمّا سبقها، وأن المبالغة في المداراة والسرية والتكتم تؤدي إلى أزمات عميقة ولا تحل مشكلات بسيطة يمكن احتواؤها بالتفاهمات الواسعة، الأمر الذي انتبهت إليه القيادتان المصرية والإيرانية، وتعملان حاليا على صياغة منظومة متماسكة تتناسب مع المعطيات الإقليمية المعقدة.
ليس بالضرورة أن تكون هذه المنظومة موجهة إلى جهة محددة أو تستهدف إحباط مخطط معين، لكنها كفيلة بأن تمنح كل طرف قوة مضاعفة، تردع من يفكرون في النيل من مصالح كل دولة على حدة، وتفطن القوى الإقليمية الكبيرة في اللحظات الحرجة إلى التعاون عندما يكون الخصم واحدا ونهما، وتجاوز الخلافات الضيقة وتلك التي يمكن تطويقها بالقليل من المرونة والكثير من الحكمة.