مغزى استئناف آلية دول جوار ليبيا
فجأة علم الليبيون أن هناك آلية للحوار بين دول الجوار، مصر وتونس والجزائر، عازمة على تحريك المياه الراكدة في بلدهم، الذي يعاني من مشكلات مزمنة، تتداخل فيها العوامل السياسية مع الأمنية والاقتصادية، ولا أحد يعرف المدى الذي يمكن أن تصل إليه بعد تصاعد الاشتباكات والتظاهرات في طرابلس مؤخرا، ووجود حراكات واحتجاجات في مصراتة والزاوية والزنتان، ضد الأوضاع الراهنة في ليبيا.
تعمد وزراء خارجية مصر وتونس والجزائر الذين التقوا في القاهرة يوم السبت إصدار بيان عام “فضفاض” يقول كل شيء ولا يقول شيئا محددا، لاعتبارات تتعلق بحسابات الدول الثلاث، وعلاقات كل منها بالقوى المتصارعة، لكن البيان يشير إلى أن آلية دول جوار ليبيا التي تأسست عام 2017 وتوقفت بعد نحو عامين، عادت الآن إلى ممارسة دورها، ولا يتوقع الكثيرون أن تحقق اختراقا في الأزمة الليبية المعقدة.
يبدو أن الغرض الرئيسي من استئناف هذه الآلية سد فراغ سياسي، فلا توجد مبادرات خاصة بليبيا مطروحة على الطاولة أو محاولات جادة لإجراء حوارات بين طيف واسع من الجماعات المسلحة وأصحاب المصالح، وخمس قوى ترى كل منها أحقيتها في وضع ترتيبات المرحلة المقبلة بالشكل الذي تعتقد أنه أنسب لها أولا، وهي: مجلس النواب، والجيش الوطني الليبي، والمجلس الرئاسي، والمجلس الأعلى للدولة، وحكومة الوحدة الوطنية.
ترى الدول الثلاث (مصر وتونس والجزائر) أن مصالحها الحيوية في ليبيا تواجه أضرارا بالغة، في ظل اتساع الفجوات بين القوى الرئيسية، ومن المهم تحريك آلية دول الجوار قبل أن تهبط عليهم آلية أخرى، أو تجد آلية المبعوثة الأممية إلى ليبيا حنّا تيتيه زخما، فالهيئة الاستشارية التي شكلتها وتتكون من 20 شخصا، أجرت حوارات متعددة على مدار ثلاثة أشهر، ورفعت تقريرا مؤخرا دعت فيه إلى إجراء حوار وطني، بما يفيد تصميم المبعوثة الأممية على إعادة اختراع العجلة، وتطبيق خطط سياسية ثبت فشلها، حيث تبنّى هذا الاتجاه، أو قريبا منه، المبعوثون السابقون: غسان سلامة وستيفاني وليامز وعبدالله باتيلي.
تنطوي عودة حنّا تيتيه إلى أجندة هؤلاء على رسالة تؤكد أنها عازمة على استهلاك المزيد من الوقت، وهو ما تستفيد منه غالبية الأجسام السياسية الحالية، وأن الجهة أو الجهات المجهولة التي تحكمت في مفاتيح بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لا تزال تمارس دورها، ولا يوجد ما يقلق قوى دولية من تصاعد الاشتباكات والحراكات في ليبيا، والمسألة محصورة في إدارة أزمة وليس العمل على تفكيك عقدها.
ما يعني أن المجتمع الدولي غير منزعج كثيرا ممّا يحدث، وأن دول الجوار من أشد الدول التي سوف تدفع ثمنا باهظا لما يدور من اشتباكات قد تصل إلى حد الفلتان الأمني في طرابلس، ولا بد من طرح مقاربة، إن لم تتمكن من تقديم حل سياسي، تلفت النظر إلى وجود حراك يمكن أن يكون نواة إيجابية أو قاعدة يتم بناء مبادرة سياسية عليها.
تعلم دول الجوار الثلاث أن أزمة ليبيا لا تملك جهة واحدة مفاتيح حلها، فهي موزعة بين قوى خارجية وداخلية، ولكل منهما امتدادات مشتركة، ما يجعل نجاح أي مبادرة مرهونا بتوافقات عدة، الأمر الذي تعمل عليه الدول الثلاث، التي قررت عقد اجتماعين أحدهما في الجزائر والآخر في تونس قبل نهاية العام الجاري، قد تكون مخرجات كليهما أكثر تحديدا من مخرجات اجتماع القاهرة الذي استغرق ترتيبه من قبل الخارجية المصرية أسابيع ليصبح نافذة أمل لوقف ما يحدث من استنزاف في ليبيا.
غابت آلية برلين، واختفت مبادرات روما، وتوارت محاولات باريس، ولم يعد الاتحاد الأفريقي قادرا على تحمل عبء أزمة فشلت كل عملية علاجها على مدار أكثر من عشر سنوات، فهل تستطيع مصر وتونس والجزائر تقديم حل على قاعدة الجوار والمصالح الاقتصادية والروافد الأمنية؟
الإجابة، قطعا لا، بحكم ما يكتنف الأزمة من تعقيدات، وقيام بعض القوى بوضع عراقيل لمنع تسويتها وتستمر أكبر فترة ممكنة على حالها من الجمود، وتظل قوى كبرى محافظة على مصالحها من منطلق ما تجنيه من فوائد بسبب التشرذم والتفسخ والاقتتال، علاوة على أن التوازنات الراهنة وما يحيط بها من صراعات معلنة وخفية حول الموارد الاقتصادية، التي تلعب دورا مؤثرا في حالتي الهدوء أو التوتر، فاشتباكات طرابلس بدأت لدواع اقتصادية، ثم تحولت إلى أمنية وسياسية.
تحاول مصر وتونس والجزائر تجسير الفجوات بينها في التقديرات السياسية للأزمة الليبية، وهي فجوات ليست كبيرة كما يتصور البعض، لأنها تتعلق بالتفاصيل وليس الجوهر، وما تردد حول تباين المواقف من حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها برئاسة عبدالحميد الدبيبة غير دقيق، فإذا كانت هناك قناعة بضرورة استبداله من قبلها، فالخلاف يأتي من حدوث فراغ، لذلك من المهم إيجاد بديل جاهز، ولن يأتي ذلك ما لم توجد مبادرة، تتبناها آلية، تحصل على دعم إقليمي ودولي يضمن نجاحها.
وهذا هو الهدف المركزي لاستئناف آلية دول جور ليبيا، فتحقيقه أم لا يتوقف على عوامل عديدة في مقدمتها: تبني رؤية واضحة ومحددة من قبل هذه الآلية، وقدرة على حشد موقف داخلي وخارجي داعم لها، والتنسيق مع بعثة الأمم المتحدة، كجهة دولية معنية بتسوية الأزمة، وإقناع رئيسة البعثة حنّا تيتيه أن تبدأ من حيث انتهى الآخرون ولا داعي للدوران في حلقات مفرغة، فضلا عن إعادة الاعتبار لما حققته هيئات ولجان دستورية وعسكرية وسياسية واقتصادية ليبية، وإيجاد المدخل المناسب لإجراء الانتخابات المعطلة منذ سنوات، التي تعمل بعض القوى الفاعلة حاليا على تعطيلها عمدا، لأنها تؤدي إلى خروجها من السيرك السياسي.
من المؤكد أن دول جوار ليبيا منتبهة إلى هذه الملفات المعقدة، ولن تتمكن من حلها بمفردها، ومن المؤكد أيضا أن بعض القوى الدولية لا تريد حلها قبل أن تضمن الحفاظ على مصالحها، بم يتجاوز الثروات الاقتصادية، حيث أصبحت ليبيا جزءا في منظومة صراع دولي بين الولايات المتحدة وروسيا، وبينهما تركيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا وألمانيا، ما يدفع مصر وتونس والجزائر إلى التعاون من أجل حلحلة مواقف هذه الدول بشكل يضمن أن التسوية السياسية ليست مستحيلة.
تسعى الدول الثلاث إلى تأكيد أن اجتماعات آلية دول الجوار بعيدة عن الكرنفالات المعروفة واللقاءات التي يغلب عليها الاستعراض، وتوفير قوة دفع متجددة، وإن لم تقدم حلا أو تسهم في حل، يمكن أن تحرك آخرين على طرح مبادرات، فعدم وجود عملية سياسية يلعب دورا في استمرار الانسداد ويفجر مزيدا من الاشتباكات.