إما مصر وإما النقاب
صحا المجتمع المصري قبل عقود فانتشرت ظاهرة الحجاب. لم يكن الحجاب بصيغته المعروفة الآن منتشرا في مصر قبل ذلك. كان هناك زي للفلاحات اللواتي يعشن في الأرياف، وكان ذلك الزي جزءا من التقاليد الاجتماعية المتوارثة. اما المدن فكل الصور والأفلام تؤكد أن المرأة المصرية كان جزءا فاعلا في المجتمع، تشارك الرجل في بناء الدولة والمجتمع في كل مكان وعلى الأصعدة كافة.
يتداول الناشطون في وسائل الاتصال الاجتماعي صورا للمرأة المصرية بين زمنين. زمن ما قبل الصحوة وزمن ما بعدها. في الزمن الأول كانت المرأة عنوانا لحرية المجتمع وقدرته على ان يجعل أبناءه يتمتعون بحقوقهم المدنية بالتساوي فكانت المرأة لا تزاحم الرجل، بل تنافسه في التعلم والتفكير والعمل الخلاق لابتكار أساليب عصرية جديدة للحياة. وما تمثال "نهضة مصر" الذي أبدعه النحات الكبير محمود مختار ووُضع في أحد ميادين القاهرة إلا دليل على أن المصريين كانوا يراهنون على نهضتهم من خلال الحريات العامة التي تتمتع بها المرأة.
يمثل نصب "نهضة مصر" فتاة مصرية تضع يدها على رأس "أبو الهول". وهو ما يعني أن حضارتين تلتقيان لتشكلا نهضة مصر الحقيقية. حضارة الحاضر التي تديرها المرأة بكل ما تتميز به من صفات خلاقة، المرأة الأم والمرأة العاملة والمرأة المفكرة والمرأة المدبرة وحضارة الأمس التي تضع المصريين أمام تحدي تجاوزها والاستمرار في تطويرها، كونها واحدة من أهم انجازات الإنسان عبر العصور. لم يفعل مختار في نصبه شيئا سوى أنه استجاب لواقع فرضه الظرف التاريخي يوم كانت المرأة المصرية حاضرة بقوة في كل نواحي الحياة وهي سيدة المنعطفات التاريخية.
ما الذي حدث لكي يصحو المجتمع على فجيعة عزل نسائه وراء حجاب وصارت "الطرحة الريفية" واجبا وفرضا دينيا لا يمكن التنازل عنه، حتى أن الشيخ محمد متولي الشعراوي صار مرجعا لتحول من نوع جديد، وقفت الممثلات في مقدمة المشهد الاجتماعي الذي يشير إليه؟ يوم أعلن الرئيس المصري محمد أنور السادات حربه على المثقفين بعد زيارته المرتجلة لإسرائيل بزغ نجم الشعراوي وصار الرئيس المؤمن من أتباعه. بطريقة منافقة وجد السادات درعا يحتمي خلفه وإن كان ذلك الدرع لم يحمه من القتل وقد يكون قد يسر لقتلته القيام بفعلتهم. ما يهم هنا أن الشعراوي صار نجما اجتماعيا مُهابا استنادا إلى سلطتين، الدولة والدين. لقد أعلنت فنانات "توبتهن" على يده وقد يكون هو لا سواه مَن تدربن على يديه على اختراع الرؤى الإلهامية التي أتتهن في المنام لتدعوهن إلى ارتداء الحجاب.
خرافة تجر خرافة. من خرافة الصلح مع إسرائيل إلى خرفة الصحوة كان المجتمع المصري ينزلق إلى هاوية لا قرار لها. وكانت المرأة هي الضحية. ولم يعد تمثال "نهضة مصر" إلا عملا فنيا يتوسط أحد ميادين القاهرة من غير أية دلالة اجتماعية أو سياسية. كان المجتمع المصري قد هُزم حين انجز تراجعه عن تحرير المرأة من قيود التمييز. مئة سنة أو أكثر إلى الوراء. صارت المرأة المصرية هي حجابها اما الاستثناءات فهي قليلة جدا وليس لها وجود في المشهد المصري العام.
وإذا كان الحجاب قد قلب التاريخ لاجتماعي المصري الحديث رأسا على عقب فإن تكريسه قد مهد لظاهرة أكثر عنفا وأشد فتكا بحرية المرأة وحقها في المساواة. تمثلت تلك الظاهرة بالنقاب الذي تسعى الدولة المصرية اليوم إلى محاربته على الأقل في المدارس. كان من المتوقع أن تلي مرحلة النقاب مرحلة الحجاب. فالأمر لا يحتاج إلا لزمن، يكون المجتمع فيه قد استسلم وأصبح رخوا بحيث يسهل اختراقه. كان صعود الإسلام السياسي فرصة تاريخية لاختزال المسافة بين الحجاب والنقاب. فالمجتمع المحجب لن يقاوم فكرة أن يكون مجتمعا منقبا. هناك الكثير من الخرافات التي يمكن اختراعها لتكون جزءا من شريعة، يمكن إحلالها محل الشريعة التي سعى المصريون إلى ترويضها يوم كان لهم طموح في أن يبنوا أمتهم ويكون لهم خيار سياسي وثقافي واقتصادي حر ومستقل.
نقاب المرأة يعني بشكل أساس اخفاء هويتها ومحو صورتها. المرأة المنقبة هي عبارة عن شبح. كائن يمكنه أن يمر من غير أن يكون له وجود. نقاب المرأة هو حكم بإعدامها. قرار يكون فيه المجتمع مسؤولا عن تدمير الجزء المثالي منه. فالمرأة هي صورة الحضارة الإنسانية. وحضارة الأمم تُقاس بتطور حقوق وحريات المرأة.
الدولة المصرية تدق الآن جرس الإنذار. إما مصر وإما النقاب.