الديمقراطية العراقية رسالة الى الغزاة الأميركان

صار على العراقيين أن يكونوا عبيدا لأصواتهم التي يتم تزويرها.

ليس هناك من مستعمر يُقلقه مصير البلاد التي استعمرها بعد أن يضطر إلى الخروج منها. ولكن الولايات المتحدة لم تكن كذلك في حالة العراق حين أبقت على قدر لافت من نفوذها المعنوي في كل رجاء يسعى الشعب العراقي من خلاله إلى اقتناص فرصته في الحياة الكريمة.

أحرق الأميركان البلد وزجوا بشعبه في محرقة الإرهاب وقلبوا حياته رأسا على عقب غير أنهم في المقابل وهبوه نعمة الديمقراطية التي هي كما يعرفون ليست مركبا يصل بالشعوب الفقيرة سياسيا وعديمة الخبرة في فن المراوغة واللعب على الحبال الى بر الأمان.

كان العراقيون يومها مطمئنين إلى أن دولتهم التي لن تكون فقيرة وهي ليست كذلك ستنتقل بهم إلى الموقع الذي يؤهلهم بأن يكونوا ديمقراطيين من خلال الاحتكام إلى أصواتهم التي ستهبهم بعد طول معاناة حكما رشيدا وأبناء صالحين يقومون على خدمتهم بأفضل الطرق وأكثرها نزاهة. تبين في ما بعد أن ذلك لم يكن سوى سراب وأن المشروع الأميركي التي سترعاه إيران في ما بعد سيظل مصدرا لشعور دائم بالإحباط.

لقد صار على العراقيين أن يكونوا عبيدا لأصواتهم التي يتم تزويرها، قبل وبعد الانتخابات. بل أن نتائج تلك الانتخابات لن تكون ملزمة إذا ما قرر السلاح ان ينقل الأصوات من مكان إلى آخر تبعا لمبدأ تقاسم الغنائم الذي لا يمكن القضاء عليه وانهاء مفعوله بطريقة سلمية. بمعنى أن الديمقراطية الملغومة التي تركها الأميركان هدية للشعب العراقي ليست كفيلة بتغيير الأوضاع حسب إرادة الشعب بل أنها وجدت لكي تؤدي وظيفة إضفاء الشرعية على نظام محاصصة فاسد.

ما جرى أن الأميركان صنعوا واقعا زائفا صار التزوير فيه هو الحقيقة.

وإذا أردنا أن نكون قريبين من الواقع فإن مجالس النواب التي نتجت عن أربع انتخابات سابقة انتجت حكومات كنت مفصلة حسب المقاس الحزبي المعتمد من قبل نظام المحاصصة وهو نظام سياسي فوقي لا يمت بصلة إلى جوهر الديمقراطية بقدر ما يسعى بطريقة طفيلية إلى أن ينتفع منها مسخرا فساده لتمزيق وحدة المجتمع.

غير أن التظاهرات التي شهدتها العاصمة العراقية بغداد ومدن رئيسة أخرى في تشرين 2019 احتجاجا على سوء الأوضاع المعيشية والخدمية انقلبت بتلك المعادلة الجاهزة وفتحت الأفق نسبيا في اتجاه المغزى الحقيقي للعملية الديمقراطية والمتمثل بتداول السلطة سلميا خارج نطاق نظام المحاصصة الحزبية أو ما يُسمى تجاوزا بالديمقراطية التوافقية. فبالرغم من عزوف أكثرية الشعب عن المشاركة في الإدلاء بأصواتهم غير أن نتائج الانتخابات الأخيرة كانت قد انطوت على هزيمة ساحقة لحملة السلاح غير الشرعي الموالين لإيران والذين كانوا يستعدون لإعلان دولتهم بعد أن تنتهي مسرحية الانتخابات التشريعية الخامسة.   

وبسبب تلك النتائج شعروا أن الديمقراطية قد انقلبت عليهم وهو ما لم يكن يتوقعوه منها وهي التي فُصلت على مقاساتهم. لذلك كان لابد من القيام بفعل حازم وسريع لإعادتها إلى مسارها الذي خُطفت منه. ولم تكن العودة إلى الشعب فكرة حاضرة في إذهان أصحاب ذلك الرد المنقذ، بل لجأوا إلى التلويح بالسلاح بكل احتمالاته حتى لو وصل الأمر إلى إعلان الحرب من طرف واحد على كل مَن يتمسك بالديمقراطية وقد انحرفت عن مسارها ووهبت الشعب القدرة على أن يختار بين السيئين من هو أقل سوءا وبين الفاسدين مَن هو أقل فسادا. لم تكن تلك النتيجة جزء من خارطة الطريق التي رسمتها الولايات المتحدة وهي الدولة الأكثر دراية بالديمقراطية وتجلياتها.  

كان واضحا أن تجمع المهزومين في إطار تنسيقي واحد انما هو نوع من الحراك السياسي الذي هو واجهة للانقلاب على الديمقراطية وقد توج ذلك الحراك بمحاول الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الذي هو ليس طرفا في الانتخابات، ولكن الأحزاب اعتبرته سببا للفضائح الذي لاحقتها في عهده القصير والتي أدت إلى تدني شعبيتها وافتضاح تورطها بالاغتيالات وقبلها بعمليات الفساد التي لم تبق للحكومة أية قدرة على الاتفاق على البنية التحتية أو تحسين الأوضاع المعيشية. 

ضمنا صارت الأحزاب تطالب بإلغاء نتائج الانتخابات عن طريق القضاء أو المفوضية المستقلة للانتخابات والعودة إلى نظام الحصص. ليأخذ كل حزب حصته ولنكف عن هذا الجدل الذي إن لم يؤد إلى حرب مباشرة فإن ناره ستظل مشتعلة تحت رماد الهزيمة وهو ما يعني العودة إلى فوضى التفجيرات والخطف والاغتيالات وكل الأطراف الراعية وفي مقدمتها الولايات المتحدة تعرف أن ذلك أمر ممكن.

وبغض النظر عما سينتهي إليه ذلك الجدل يمكن للشعب العراقي أن يطمئن. لقد وصلت رسالته إلى الغزاة. فالوصفة الجاهزة للديمقراطية تم إفشالها نسبيا ولن يمضي وقت طويل حتى تفرض الديمقراطية الحقيقية شروطها.