الرئيس.. خطأ البداية أخطاء للنهاية

يصبح استمرار الرئيس إلى ما لا نهاية هو الأصل المنظور. أما تبادل السلطة بإجراءات دستورية حقيقية فهو الاستثناء المحظور.

"أحط رجلي، وابن أبوه من يحركني"، مقولة عربية شهيرة تُقال حين السعي إلى السلطة.

وهي تعني ببساطة أن من يقتنص منصب رئاسة الجمهورية بوسيلة مشروعة أو غير مشروعة، لن يتركه مهما كانت التكلفة، فهو، منذ البداية، ومع سبق الإصرار والترصد، لم يأتِ ليرحل، بل جاء ليبقى ما بقي في عروقه نبضاً، وإنه والدولة أصبحا كياناً واحداً لا انفصام لهما، بغض النظر عما ينص عليه الدستور.

فالدساتير العربية ما هي إلا ديكورا لتزيين وجه الدول القبيح أمام العالم، ومع أن الدستور في بلدان الدنيا هو عقد اجتماعي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وفقاً لقواعد ثابتة لا يجرؤ على تخطيها أو العبث بها أحد، إلا أنه في المنطقة العربية وريقات كُتبت بحُسن نية (كما وصفه أحد الرؤساء، وكأن المطلوب أن يُكتب بسوء نية) وأنه شيء ضمن الأشياء المتوارية بدهاليز الدولة وظلامها، فلا تجرؤ على مجابهة المصدر الأوحد للضياء والإشعاع، الرئيس.

على هذه القاعدة، يصبح استمرار الرئيس إلى ما لا نهاية هو الأصل المنظور، أما تبادل السلطة بإجراءات دستورية حقيقية فهو الاستثناء المحظور، والجميع يعلم أنها قاعدة باطلة تجافي الدستور والقانون وطبيعة الأشياء، إلا أنها مفروضة بقوة بطش الدولة.

وكنتيجة طبيعية لفرض ديمومة الرئيس، واستبعاد أي محاولة لزعزعة هذا الوضع المخالف للدستور، يبدأ الرئيس ببذل 90% من جهده وحكومته، لصالح تأبيده في السلطة، ولهذا الغرض تُنشأ أجهزة متعددة في الدولة تُكلف خزينتها الخاوية أصلا، المليارات، لو صُرفت على تلبية احتياجات الوطن والمواطن، لأزدهر الوطن، ونجح الرئيس، ولما كان مضطراً لمحاربة المعارضة ومطاردة المعارضين، ولما كانت المعارضة موجودة من الأساس.

هذا الخطأ المبدئي، أفرز بيئة تجتذب أخطاءً متتالية، ينمو فيها كل ما هو مخالف للدستور والقانون، ويصبح معيار الكفاءة وترفيع الأفراد وتقريبهم من السلطة ومنحهم مزاياها، هو التأييد المطلق للرئيس، ومُباركة تصرفاته، وتبرير أخطائه، ومعاداة أعدائه، ومن ثم المناداة به رئيساً مدى الحياة، وهنا يتذكر الجميع الدستور، فيُبعث إلى الحياة، للقيام بالدور المرسوم له، وهو تقنين الأمر الواقع، بإدخال التغيير المناسب على مقاس حالة مفروضة، فيهنأ الجميع ويتراقصون، ويتباهون باحترام الدستور، وبعدها يُعاد إلى مقبرته بانتظار دور آخر في مسرحية جديدة.

تلك الثقافة آتية من الماضي السحيق، تسخر من عقول الشعب وهذا لا يليق، والمتمسك بها لا يبني بل هو للتقدم معيق. ألم يحن الوقت لوأد هذه الظاهرة البالية؟ ألا يحق للمواطن ممارسة إنسانيته وحريته في القول والاختيار؟ ومتى تستطيع الأجيال المتلاحقة رؤية رؤساء غير رئيساً مفروضاً عليهم من المهد الى اللحد؟.

اروع ما في الحياة ان يعيشها الانسان على أمل أن يتمكن من تغيير اختياراته بعد التجربة السابقة، فكلما كانت وسيلة تغيير الاختيار متاحة، كلما أصبح التقدم ممكنا بعد التعلم من أخطاء الماضي. الأمل في التغيير يفتح آفاقا واسعة للنجاح ويجعل الصبر على المصاعب بصورة مؤقتة ممكننا طالما أن التداول أمر واقع. فالرئيس التي ستنتهي ولايته بعد أربع سنوات يبذل جهده وفقا لرؤيته وينفذ اختياراته ويجتهد بحسب قدراته، يتفق معه من يتفق، ويختلف من يريد، وسيحكم التاريخ بما له وما عليه، وحتما سيأتي من بعده من يختاره الشعب لاستكمال المسيرة لا أن يهيل على اعماله التراب، فالوطن لم يعد يحتمل تنكر الحاضر للماضي، ولا تربص المستقبل بالحاضر، إنما هي ممارسات سياسية طبيعية لا معارك فيها ولا مؤامرات، يستطيع خلالها أي رئيس النوم بأمان لأنه لن يكون مضطرا لمطاردة او ظلم أي إنسان.

أما قتل الأمل وفرض الواقع المتطلب التغيير، بالقوة والقهر، فلن يكون الصبر معه اختيارا، فالصبر ليس الا مرحلة من الضغط الشديد، هي مؤقتة بطبعها، يختبيء بداخلها الانفجار ولا يظنه أحد ببعيد، وسواءً تحسن الحال او لم يتحسن، فلا مفر من التغيير والتجديد.

تلك كلمات مخلصة كتبتها لمصر، ومن أجلها فقط أكتب، وأنا أدير ظهري للحياة، ما بين الغرق والنجاة.