بين المشهدية والتكثيف في 'قصة في كف أنثى'
في مجموعة "قصة في حجم كف" للكاتبة المصرية صابرين الصباغ، ربما يجد المتلقي نفسه ملزمًا بالالتفات إلى فنيات/ منمنمات تحويها نماذج نصوص تنحاز إلى سمة من سمات السرد، مرتبطة ارتباطًا موضوعيًا ببنية القصة كفن منفرد ومتفرد يلعب على أوتار لحظات نادرة وفاصلة، تحتاج إلى رؤية قناص كي يضع الحد الفاصل بين سردية النص القصير جدًا، ولا سرديته/ شعريته الوليدة أو المبتسرة كجنين شعري مجهض، حين يفرغ النص حمولته ويضعها في نطاق التلقي والتأويل.
فمما لا شك أن القصة القصيرة جدًا بمفهومها الحداثي والوجودي معًا، تمثل شكلًا من أشكال السرد الجديد نسبيًا، له حاكميته ووجوده من خلال أطر مستمدة من "القصة"، كمرجعية بالأساس وفن ترسَّخ ونما ونمت طرقه الفنية وتنوعت وأصبح عصيًّا على القولبة والتنميط بتمرده الدائم على تقاليد وأركان وإحداثيات ومساحات نفسية يتحرك فيها؛ ليحدث حالة من الدهشة والمفارقة وسبر غور الواقع من خلال حبكة درامية ولغة خاصة بالسرد، وبارتياده مخيلة قادرة على الجمع بين التكثيف ومساحات التعبير للتعامل مع التفاصيل الدالة (كعنصر حيوي مهم في التشكيل القصصي المشحون بالدلالات) سواء بالوصف أو بمجاز يلعب دوره في تشكيل الصورة السردية المختزلة والمكثفة، ربما لامست تخوم الشعرية في كثير من الأحوال كشحنة يحملها النص/ الفقرة/ الجملة في بناء النص القصصي القصير، وربما أتى فن (ق. ق. ج) ليكون حلقة جديدة من حلقات التمرد على النص القصصي التقليدي وقوالبه..
لكننا في الواقع بإزاء تحوُّل مهم من تحولات السرد إلى تكثيف/ تقنين تجتمع فيه شعرية الاختزال وتكثيف المعنى والدلالة في دفقة شعورية أو ذهنية مركبة تركيبًا هندسيًا، ربما تبدى فيها المجاز والاستعارة، واستفادت بصورة أكبر منهما في بناء وحدة مؤثرة خاطفة، تستلزم انتباهًا وتركيزًا شديدين، ومن تميزها بلبنات صغيرة حارقة بالغة الرهافة يتكون منها النص القصصي القصير جدا، كمعادل لتشظي الحالة الإنسانية، وجنوحها إلى تكثيف وجود معادلات أخرى ربما ازدادت جرعتها في متن العمل القصصي وعنوانه (الذي ربما أصبح جزءًا لا يتجزأ من المتن)، ومنها: الإضمار، والمفارقة، والإزاحة، فضلًا عن التكثيف الشديد، وزيادة جرعة اللغة الشاعرة المحملة بالدلالات والعلامات، كل ذلك مع التزامها بالنصية والسردية، تمامًا كأركان النص القصصي المعتاد، المتناوب بين السرد والحكي والتقنيات اللازمة لتحقيقه، كبنية ودلالة.
يؤثر فيها العامل النفسي كحالة وجودية قلقة متشظية، لا تنفصل عن الواقع، بقدر ما تستلهم منه لحظاته/ ومضاته القادرة على الكشف والخروج من حالة آنية إلى حالة تتمثل فيها براعة استخدام كلمات خاطفة تعبر عن هذا التشظي وهذا القلق، فيأتي النص في صورة ومضة/ همسة/ كبسولة، وربما جنح ليكون عظة أو حكمة، وهو ما قد يفسده!!
إذن فقراءة هذه النوعية من النصوص تخضع لعدة عوامل حاسمة في تشكيل هوية النص ومدى ارتباطه بحالة السرد، أو جنوحه إلى حيز المفارقة فحسب، أو حيز السخرية من الواقع دون الاتكاء على عناصر السردية والتأويل؛ فلتوظيف تقنيات النص القصصي القصير، دور مهم في تجسيد تلك الهُويَّة التي ربما لفتت النظر بداءة إلى أهمية العنوان الرئيس لحزمة تفاوتت من الومضات إلى النصوص الأكثر تفاصيل ووصف، وفي تحديده/ توصيف الحالة من خلال عتبة أولى تحدد هوية النصوص، بما لهذه السمة من عوامل قد ينجح فيها متن النصوص أو لا ينجح في كونها تمثل بنية داخلية للنص في حد ذاته ضمن بنية أكبر هي بنية المجموعة.
فربما كانت الـ "قصة" بهذا الملمح التجريدي هنا، يُشار إليها بالقبضة المسددة نحو نقد واقع ما كـ "قصة"، أو تمرير فكرة الدفاع عن حس أنثوي وقضايا للمرأة من خلالها كـ "كف أنثى" تحديدًا، أو مدى تحكم النص في إيقاع السرد اللاهث القصير جدًا، أو غيره، بتلك المراوغة، والتي تتجاور معها جزئية ارتباط عنوان النص القصصي بمتنه في علاقة تأويلية/ شارحة/ ممهدة أو كجزء من النسيج لا يمكن قراءة النص بدونه، ربما وفق فيها النص الواحد أو أخفق، وهو ما تراهن عليه النصوص ضمن ما تراهن.
فالنص الأول ربما أرسى لقواعد تلك العلاقة بين العنوان وبين المتن في صورة ما تكرس لهذا المفهوم، والوحدة العضوية؛ لتصير العلاقة على مدار النصوص علاقة ارتباط بنائي تتميز به المجموعة: "الحل: زاد التحرش، فبحثت عن صاعق أخلاقي".
ربما جاء النص على سبيل التقرير/ الإقرار بواقع حالة، وهي التحرش، ليأتي حرف الفاء السببي في "فبحثت" ليحل محل مفردة "الحل" الغائبة في المتن والحاضرة في العنوان، لتكون عتبة وجزءًا رئيسًا في النص، ولتمضي النصوص على تلك الشاكلة المرتبطة، لتعطي إشارة مهمة للتأويل، قد لا تفلح أيضًا في ترسيم تلك العلاقة وتأكيدها في بعض النصوص، إلا أنها تمثل ظاهرة وسمة من سمات التعامل مع النصوص/ بنائيتها، هذا في ظل وجود علاقة يطرحها النص من خلال السكوت عن تفاصيل مضمرة تفضحها الممارسات/ الأفعال/ ردود الأفعال من خلال الإلماح بكلمات وامضة عما استتر، ومن خلال نتيجة تمثل رد الفعل والمحرك نحو مقاومة آفة (التحرش)، مع ما تمثله هذه التركيبة المجازية/ الاستعارية بين "الصاعق" كمادة و"الأخلاق" كمعنى وصفة، لتعبر في مجملها عن الوقاية، وهي صورة من جماليات نصوص تنزع إلى التجريد، والتجريب في حيز الكلمات السريعة، سرعة لا تجد فيها أي فواصل ولا حروف عطف كتركيبة هندسية تنزع إلى المثال.
"أسر: جلبت عصفورين، ليتعلم منهما العشق، فأحكم عليَّ أسره" (ص11)
في هذا النص تبدو تقنية المفارقة والإضمار معًا؛ لتشكلا حركة السرد وتتحكما في هذه المساحة المكتنزة التي يقرر فيها النص بفعل الجلب/ الإتيان/ الإحضار، (جلبت عصفورين) إمعانًا في التلذذ بحالة عشق سوف يمارسانها في الأسر، لغاية رومانسية تتغياها الساردة/ الأنثى تمثل هدفًا لعلاج حالة ذكورية مضمرة من الجفاف العاطفي والوجداني، ومن ثم تحويل شخصية بدت سمات جفافها من خلال الإلماح بمحاولة علاجها لتثبيت حالة مرض/ خلل يلعب عليها النص، لتبدو النتيجة من خلال الانتقال إلى تمثل الأثر السلبي لهذه البهجة باحتباس الأنثى ذاتها في قفص أكبر وأكثر إحكامًا على وجودها بداخله وفقدها حرية/ بهجة كانت تشتهيها من جمالية مشهد العشق في الأسر، ولعل تلك المفارقة قد تشي بسذاجة غير مبررة من أنثى تضع نموذجًا للأسر وليس للاحتواء والانعتاق، فتعدم طريقًا للخروج من تلك الحالة من الجفاف والذبول.!!
"طلاق: قرر الانفصال عنها برغم جمالها، فهي لسان نبت له امرأة" (ص15)
يبدو هذا النموذج مضادًا على المستوى الإنساني للنموذج السابق، ولكنه مساوق له في فكرة تبدأ بالتقرير/ الإقرار، بتقديم مسوغات الانفصال، تغاضيًا عن جمال ملحوظ لا يُغني عن واقع أكثر تشوهًا حين تبدو مساوئ الأنثى المضمرة من خلال التأكيد على الحالة الجمالية، وبالتعبير بمفردة "برغم" التي تزيح سبب تشوه العلاقة على أنثى يتعامل معها النص بسحر الواقع/ كحالة سريالية يتحول فيها اللسان (المفرد هنا، والمجرد) وهو عضو تابع للجسم فيتجرد من فسيولوجيته نحو تعاطيه مع حالة معنوية يؤديها تحول المرأة إلى لسان بذئ، وهي إحالة نجح النص فيها من خلال صورة عجائبية يسوقها لتلك الأنثى، ما يشي بعمق التأثير النفسي لتلك الومضة وتركيبها على أساس استيعابها لحالة ممتدة من الحكي، ويثبت للنص براعة التكثيف كتقنية مميزة لتلك الكتابة.
"عهرولوجيا: يقسم على طُهرها؛ فهي لا تخرج من البيت إطلاقا، وقد ابتاع لها كل اختراعات التكنولوجيا" (ص23)
استمرارا لمد يناقش علاقة المرأة بالرجل أو العكس، في ميزان كتابة سردية تحاكم الواقع أكثر مما تحاكم شخوصه، ينهض هذا النص على تركيبة لغوية يسوقها العنوان المبتكر الذي قد يفسر، ويربط أجزاء النص ببعضها، بالسمة ذاتها التي يقرر فيها حالة معنوية تعطي أمارات الثقة غير المدعومة، إلا من مبرر وهمي، وهو وهم احتباس الأنثى بين جدران البيت، وهي الحالة الموازية لاحتباس الأنثى في قفص يمنع عليها متعتها في نص سابق..
النص دون عنوانه هنا يصبح نصًا ناقصًا لأنه في متنه لا يعدو إثبات حالة مع تبريراتها الثابتة غير المخلة بالحالة، لكن دخول العنوان يعطي معنى آخر مختلفًا في سياقه، فالجمع بين: العهر، والتكنولوجيا يمثل إحباطًا معنويًا وماديًا لكل ما سرده النص في متنه، وإن بدا على سبيل التلخيص لا الإيجاز والتكثيف!!
"هنومة: دلو به مياه مثلجة تسبح فيه زجاجات المياه الغازية، تمر بين الركاب تتغنج بأنوثتها، للتحول عربة القطار إلى دلو يسبح فيه الرجال في مياه تحترق" (ص57)
تبدو المشهدية جلية في تجسيد حالة استدعاء لشخصية سينمائية/ حياتية كنموذج مستلب، من خلال تناص مع فيلم سينمائي شهير، من وعي ذاكرة الكاتبة، قائم على توظيف/ تضمين حالة مرئية/ مسموعة، حيث يقوم على اجترار المشاهدة ومحاولة التطابق معها، مزيحة تلك الحالة على واقع يرتئيه النص ليصنع به جدلًا مع حالة يراها متكررة/ مستنسخة، مع اختلاف المعيار الأخلاقي والقيمي سواء للمجتمع/ الركاب، أو لفتاة كادحة تحولت إلى نموذج إثارة، ولكن بنوع من السريالية/ سحرية الواقع/ المشهد التي تحوِّل عربة القطار/ الحياة إلى مفردة من مفردات المشهد/ الحالة، وهي الدلو الذي يغرق فيه الرجال/ العنصر الآخر للحياة/ الواقع من أثر الاصطلاء بجحيم الأنثى/ الحياة وأنوثة مفرطة طاغية تشعل المشهد وينبني عليها كمفارقة بين كدح الحياة وبروز الأنوثة الفطري، ليمثل العنوان هنا نموذجا يمكن الاستغناء عنه والاكتفاء بالتفاصيل الرمزية للعلاقة مع الحياة في رمزها/ الأنثى.
تزداد جرعة السرد والمشهدية في بعض النصوص، اعتمادا على تفاصيل تثري النص، وتنزع للحكي، لإبراز واقعية خادمة لحركة النص أو العكس، مما قد نجده في نص مثل: تمزيق[1]، تفلسف به الساردة/ الأنثى واقع الحياة والموت، عبر أوراق ثبوتية تؤرخ لحياة البشر بصفة عامة، وتراها في صورة شهادات رسمية. ربما اعتمدت آلية السرد في هذا النص على تقافز الفعل الماضي، الملخص لمراحل الحياة من خلال أوراق/ شهادات:
"فتحت.. تصفحت شهاداتي الرسمية – تذكرت شهادة... – تذكرت يوم خروجها للنور..."
خلف هذا الإيقاع المتصاعد/ القافز يتوارى المزيد من تفاصيل تمثل تاريخ حياة، وهو ما تضمره الكتابة على نحو لا ينزع إلى بلاغة الكلمات/ إيقاعها/ حمولتها الشعرية، ولكن تجنح لذهنية تراتبية ينتهجها النص، وصولًا إلى نهاية عدمية تستبقها الكاتبة في جملة: "ستمزق باقي الشهادات" إضمارًا لشهادة/ ورقة الوفاة التي تتحول بفعل الأنسنة إلى وحش/ غول/ هاجس يؤرق بال ساردة تضمر قلقًا وجوديًا، وحسيًا عدميًا، واستشرافًا لما بعد الوجود، كملمح ميتافيزيقي مضمر!! وحيث تحقق النصوص في مجملها المعادلة النصية إلى حد بعيد!!
[1] المصدر السابق نفسه ص98