تناقضات الحرية داخل كيان طائفي

قبل العراقيين بزمن طويل، وُضع اللبنانيون في حلبة لن ينجو أحد من تداعيات الصراع الذي يجري فيها.

منذ متى لم يكن لبنان طائفيا؟ لقد تربت أجيال لبنانية متعاقبة على صيغة توافقية تضع الرئاسات الثلاث على طاولة تقسيم لا علاقة له بالوطنية، مشروعا لحياة مشتركة في وطن واحد. فليست رمزية الوجود الماروني في رئاسة الجمهورية سوى تذكير بالأقلية التي تحظى بهاجس الراعي الفرنسي الذي هو التعبير الأمثل عن الخوف على مصيرها. لذلك يجب أن يكون صمام الأمان في البلد مارونيا دائما. وعلينا هنا أن نفكر في صورة لبنان في الخارج كما لو أنها جزء من خرابه النفسي، طويل الأمد. ذلك الجزء الذي يتممه وجود سني على رأس السلطة التنفيذية ووجود شيعي على رأس السلطة التشريعية. تلك قسمة ضيزى كما يُقال. فهي نوع من الخلاصة القسرية لبلد متشعب وإشكالي وممتد جغرافيا خارج حدوده من خلال جالياته المهاجرة إلى أفريقيا وأميركا اللاتينية كما أن ذلك البلد الصغير وهب الآخرين بقدر ما يحلم بأن يقدمه الآخرون له أو يزيد. وليست عطايا لبنان سوى زاد روحي لا ينفد ولا يقع في منطقة الاستهلاك.

ألا يستحق بلد من ذلك النوع واقعا آخر يتسق مع خيال ظاهرته الرحب والخصب؟ لا شك أن لبنان كان موقع اختلاف من جهة التباين في وجهات النظر التي يرغب أصحابها في تقييده بعناصر وصفة جاهزة. غير أن هناك اجماعا على أن الفوضى التي عاشها قبل حربه الأهلية كانت عنوانا لحرية غائبة أو مغيبة في أنحاء عديدة من العالم العربي وهو الأمر الذي استفاد منه المثقفون الهاربون من القمع في بلدانهم دون سواهم بالرغم من أنهم لم يعملوا على تفحص الظاهرة اللبنانية نقديا ولم يعالجوا ولو نظريا الثغرات العميقة التي تتخلل النظام السياسي اللبناني، كونه يستند إلى قاعدة رثة متخلفة صدرت عن رؤية استعمارية أخضعت الدولة لشروط فلكلور اجتماعي لا تصلح ثقافته لبناء دولة.

لم تكن الحرية التي تمتع بها غير اللبنانيين على الأراضي اللبنانية وفي بيروت بالأخص سوى واجهة زائفة حاول اللبنانيون عن عدم خبرة الترويج لها وتسويقها سياحيا باعتبارها بضاعة معمرة في الوقت الذي كان عليهم أن يلتفتوا إلى الساعة التي بدأ رملها ينفد. وهي ساعة مصيرهم. ما جرى عام 1975 وبعده لم يكن حدثا طارئا انبعث بسببه جنون الطوائف، بل أن البوسطة وكانت قد أشعلت شرارة الحرب الأهلية لو لم تمر واقعيا لتم اختراعها خياليا.

بُني لبنان السياسي ليعيش دورات عنف مقيدة بتواريخ محددة لا يحيد عنها بغض النظر عن حسن النية التي يظهرها سكانه وهم يحاولون نسيان تركيبة بنية نظامه المتشظية. قبل العراقيين بزمن طويل وُضع اللبنانيون في حلبة لن ينجو أحد من تداعيات الصراع الذي يجري فيها.

ولقد وصل النظام الطائفي إلى مقتله حين صار حزب الله الذي يحتكر مع حركة أمل تمثيل شيعة لبنان حسب الوصفة الطائفية وصيا عليه. يمكن أن يكون المرء مارونيا مثل ميشال عون ويصبح رئيسا للجمهورية باعتباره شيعيا مقنعا. وهو ما يشير إلى حدوث تحول نوعي في آليات عمل النظام الطائفي. طائفية اليوم ليست كطائفية الأمس. فهي تقوم على استعباد لا ينسجم مع وهم الطوائف الحرة في اختيار ممثليها والذي كان سائدا عبر العقود الماضية، قبل الحرب وبعدها. صار على اللبنانيين اليوم أن لا يدققوا كثيرا في هوية وسيرة وأفكار مَن يمثلهم في ذلك النظام السياسي البالي والمتخلف. ما عليهم سوى أن يلتفتوا إلى ماضيهم لا باعتباره زمنا جميلا، بل كونه حاضنة لمصائب ونكبات مستقبلهم.

كشف الزمن الطائفي عن لعنته مع توحش حزب الله. ولكنها لعنة ليست جديدة. دفع اللبنانيون ثمن تلك اللعنة عبر مسيرة آلامهم.

حين خرج الشباب اللبنانيون في تشرين عام 2019 مطالبين بإنهاء النظام الطائفي كانوا يدركون أن ذلك النظام قد أفضى بلبنان إلى أن يكون دولة فاشلة في طريقها إلى أن تفقد مكانتها اقليميا. ما لا يحتاجه اللبنانيون أن يتذكروا زمن الحرية الفائض، فهم في أمس الحاجة اليوم إلى إنهاء زمن الطوائف. من غير ذلك سيظل لبنان بلدا أسيرا.

غير أن إنهاء زمن الطائفية ليس أكثر صعوبة من تفكيك الوعي الطائفي الذي أسر اللبنانيين وصار بمثابة البوصلة التي يهتدون بإبرتها من أجل التعرف إلى هويتهم وموقعهم في تلك البلاد الضائعة. فالنظام الطائفي انتج وعيا طائفيا هو سنده حين تحل لحظة الحقيقة.