خرافة العسكر ولا أبطال هذه المرة في السودان

ليست الحروب التي عاشها السودان عبر الخمسين سنة الماضية سوى غطاء لحكم العسكر.

انتظر المدنيون في السودان أن يستلموا السلطة لتنتهي خرافة العسكر الذين ينقذون البلاد.

في ظل ذلك الانتظار كان العسكر يحيكون المؤامرات، بعضهم على البعض الآخر في محاولة منهم لتأخير استحقاق تورطوا فيه من غير رغبة منهم في أن يكونوا أهلا له.

فبعد جعفر النميري جاء عمر البشير ثم جاء البرهان والثلاثة انغمسوا في تضليل الشعب بنظرياتهم التي تعلي من شأن التحزب المذهبي على حساب البناء الواقعي. كانوا أشبه بأئمة لجوامع لا تقع على الأرض ولا تستقبل إلا فقراء اكتفوا بالدعاء متخلين عن العمل.

وفي الخفاء كان السودان يُسرق، ثروة وزمنا وكفاءات. وليست الحروب التي عاشها السودان عبر الخمسين سنة الماضية سوى غطاء، ذهب من أجل ادامته مئات الالوف من البشر قتلى ومعاقين ومشردين وكان الوطن الموحد يبتعد. وحين خسر السودان الجزء الجنوبي منه اتضح مدى استخفاف العسكر بالوطن المؤجل. لم تحدث تلك الانتكاسة نتيجة لخطأ في التقدير وانما حدثت تعبيرا عن ضعف الإرادة الوطنية وخفة عقول العسكر الذين ضحكوا على أنفسهم، مرة بالإرهاب ومرة بمحاربته.  

وإذا كان النظام السياسي قد انتقل من الحرب على أميركا إلى التطبيع مع إسرائيل فإنه لم يكن يحلم إلا بإنقاذ رأسه من غير فائدة.

اليوم إذ ينزع البرهان ونائبه حميدتي قناعيهما في حرب طائشة سيُذل الجيش السوداني فيها حتى لو انتصر فإن تداعيات تلك الحرب قد تؤدي إلى مسلسل انقلابي جديد، سيكون مناسبة لخلط الأوراق من جديد، يفقد الشعب من خلاله وهم السلطة التي اعتقد أنها صارت بين يديه.

هل كان متوقعا أن يتحول الوهم إلى واقع؟

تلك كانت واحدة من أهم الأكاذيب التي سعى حزبيو السودان إلى تلفيقها لتهدئة الأوضاع الشعبية المتفجرة التي أسقطت حكومة عمر البشير.

وإذا ما كانت ميليشيا الجنجويد التي صار اسمها قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي قد شاركت في التظاهرات التي أسقطت البشير فذلك لم ينبعث من شعور وطني بقدر ما هو تعبير عن محاولة استباقية للانقلاب على أي تغيير يمكن أن يقع في أية لحظة. وهو ما حدث فعلا. ومن الغريب فعلا أن دول العالم التي ظلت تراقب الأوضاع في السودان باهتمام يكشف عن رغبة في اقتناص لحظة التدخل المناسبة لم تعترض عل وجود الميليشيا التي يقودها حميدتي والمتهمة بارتكاب جرائم مروعة ضد الإنسانية في جنوب السودان ودارفور. ألا يعبر ذلك عن موقف مبيت دولي للتخلص من الجيش السوداني وتسليم السودان إلى فوضى تديرها ميليشيا يمكن أن تعيد ملف السودان إلى المحكمة الجنائية الدولية؟

ما هذه اللعبة على رقعة شطرنج مهترئة؟

لو عدنا إلى الأرض بدلا من التحليق مع العسكر المنقسمين بين التحالف والتقاتل فإن السودان الذي بات سلة غذاء فارغة هو واحد من أغنى الدول لما تحتويه أرضه من معادن، أهمها الذهب والنحاس. أما موقعه الجغرافي فإن التفكير فيه مؤجل لكي لا يكون سببا في سباق استراتيجي لم يحن الآن موعده في انتظار ما ستسفر عنه الحرب في أوكرانيا. الروس والأميركان والايطاليون والفرنسيون كلهم موجودون هناك. ولكن ما يظهر على السطح ليس خلافا على الثروة، بل على المواقع في السلطة. وتلك هي الأخرى كذبة أُريد لها أن تتمدد لتخترع مشهدا يبدو فيه السودانيون مختلفين على طريقة الحكم في ظل سؤال ساذج يتعلق بمَن يحتوي الآخر، الجيش السوداني أم قوات الدعم السريع التي هي مجرد ميليشيا أضفى عليها عمر البشير شرعية مضللة.

الحقيقة التي تفرضها مصالح الدول لا تستقيم مع انتقال السلطة إلى المدنيين وقيام دولة ديمقراطية تستند على مبدأ تداول السلطة في السودان. ذلك بلد يجب أن يُنهك. يجب أن يصل شعبه إلى درجة اليأس من إمكانية قيام دولة ترعى شؤونه بقدر من الوطنية التي تنفتح على العالم بإرادة تضع مصلحة الشعب فوق مصالح الدول الطامعة بثروات السودان. المطلوب أن ينزلق السودانيون إلى الهاوية التي يتمنون فيها لو كانت القواعد العسكرية الأجنبية قادرة على حمايتهم من استهتار عسكرهم.

سيُقال دائما إنها حرب لا معنى لها. وهو قول يتهرب من النظر إلى حقيقة أن هناك عشرات الأيدي تلعب على رقعة الشطرنج المهترئة فتضع بيدقا محل وزير وتجرد الملك من قلعتيه.

السودان دولة منتهكة ومخترقة، سيكون جيشها الوطني هذه المرة هو الضحية بعد أن يقع الالاف من المدنيين قتلى لصراع لن يُنتج أبطالا.