د.إبراهيم شبوح: أدوات المائدة الإسلامية زاخرة بالأطباق والفنون

الباحث والمؤرخ المتخصص في الآثار الإسلامية يحاول في دراسته 'المائدة في التراث العربي الإسلامي' أن يضع صورة مقربة لموضوع الطهي والغذاء في العالم الإسلامي.

يحاول الباحث والمؤرخ المتخصص في الآثار الإسلامية د.إبراهيم شبوح في دراسته الصادرة باللغتين العربية والإنجليزية "المائدة في التراث العربي الإسلامي" أن يضع صورة مقربة لموضوع الطهي والغذاء والمائدة في العالم الإسلامي، تناول فيه جانبا من المعطيات البعيدة والقريبة المتصلة بثقافة الطعام وتوفير مواده ومعرفة خواصه، ودراسة مصادره وفلسفة تأليفه، وجمع النصوص التي قصت قصته وسجلت طرائفه وأخباره، ووصفت إعداده ومكونات أطباقه وتقديمها طعاما طيبا على الموائد الحافلة.

يقول شبوح إن فن الطهي أو الطبخ ليس مادة "أنثروبولوجية" لها أهميتها في تصوير وتقييم حياة الشعوب، والدلالة على أسلوب معاشها وتطور أساليب حياتها فحسب، بل هو تعبير صادق ودقيق عن تكامل اجتماعي وحضاري يمكن الكشف عنه وراء المأكولات نفسها، فلا ينظر إليها وحدها بمفرداتها المجزأة في وصفات الأطعمة وإعداد الأطباق، بل يمتد إلى البحث في دوائر أوسع وأبعد، منها الفلاحة أو الزراعة باعتبارها مصدر الغذاء الذي توفره الأرض، وإلى مراكزها ومواردها وتنظيم ريها، وضبط فصولها، واختلاف قوانينها باختلاف الأقاليم. والتجارة المنظمة التي تأتي بالتوابل والأبزار النادرة من شرق آسيا، في مسالك بحرية ومخاطر حتى تتيسر للناس وتمتلئ بها الأسواق. وأدوات المائدة وصناعتها من صنوف الخشب والمعادن والخزف. ومعرفة قوى وخصائص مفردات النبات والتوابل والأبزار المستعملة، من حيث الطب والغذاء ومعرفة القوى. وفهم قوى التذوق والشم التي تحقق الاستحسان والاستساغة وطيب الطعام، وذلك من خلال عرض موجز لتفهم فلاسفة وأطباء تلك العصور، كما قدموها في أعمالهم الكبيرة. وأخيرا النصوص والنصوص الأساسية التي كتبت عبر مراحل التاريخ الإسلامي عن الأكل وأدبه، وما يتصل به من طرائف الأخبار وما سجله الشعراء وعن كتب صفاته وصنعته.

ويرى فيما يخص أدوات المائدة الإسلامية أن المتاحف العالمية تحفل بالنماذج الإسلامية للأطباق والصحاف والصواني والقدور، وكلها تحتفظ بعلامة تميز في فنها بما يغطي المعدن من زخارف توريق، وزخارف بشرية محورة، وزخارف هندسية، تعد من روائع فنون تلك الحقب من تاريخنا الحضاري. وإذا كانت المعادن على محدوديتها وبما يطرأ عليها من تحويل لوظائفها مما يؤدي إلى إتلافها، ويجعل الباقي منها قليل العدد، فإن الخزف هو الفن العظيم الذي يعد منذ عصور ما قبل التاريخ معيار التعبير عن ثقافة المجتمعات، ويعتبر في العصور التاريخية الإسلامية مجالا للخبرات الفنية العالية، وخاصة ما يتصل بالكيمياء بمعناها التجريبي والعلمي. فقد حقق الصناع المسلمون فيه فن مزج الألوان المختلفة، وحذقوا التبطين والتزجيج وكل ضروب الطلاء، التي تحفظ الطينة المجبولة من الترشيح والترسيب، وتجعل من هذه الصناعة تحفا بديعة فنية، تعبر عن ثقافة شعبية عالية.

ويلفت شبوح إلى إن مدارس الفن الإسلامي تركت تراثا ضخما من الخزف المتنوع في أشكاله ووظائفه المقترنة بالأطعمة، وبالزخارف الكتابية والنباتية والحيوانية والبشرية التي تغطيه، ولمختلف الألوان الفاقعة، والمتألقة؛ وقد أشرت إلى بعض أسرار تركيب هذه الألوان من خلال مخطوط نادر عرفت به أخيرا؛ وكلها تصب في جهد الخزافين خاصة وما يعدونه لصناعة أطباق الطعام.

وقد كانت الوصية للطباخين أن يطبخوا في القدر البرام المكية؛ فإنها أجود ما يجود فيه الطعام، وحددوا ما يحتاج إليه في المطبخ من آلة الطبيخ، وهي القدور الكبار، والأوساط، والصغار، وأغطيتها. وكانت الحسبة على هذه الصناعة شديدة؛ حتى لا يستخدم في الطلاء مواد وأدهان تضر بالصحة، وحرصت النخبة من المترفين والأمراء على اقتناء الأواني الصينية التي تتميز بصلابة طينتها وتلاحمها لطول التخمير، وبقوة طلائها وأحجامها الكبيرة، ويتفاخرون بها وينقلها التجار من مواطنها البعيدة إلى البلاد العربية خاصة، ويحاول الصناع أن يقلدوها في رقتها وألوانها ورسومها المحفورة؛ وشاع تدليس هذه الأواني في حقب معروفة نتيجة إقبال الناس عليها.

ويؤكد أن نظرية القوى الكامنة في الأغذية هاجس مسيطر على الطبقة المترفة، فتمثلته في تصور نتائج كل مأكولاتها، وكان ذلك جزء من الثقافة الطبية المبسطة التي انتشرت في الأوساط الاجتماعية داخل المدن الإسلامية الكبيرة خاصة، إلى جانب الأمراض المحددة وما يجتنب أكله بسببها، هناك مطالب تتطلب مآكل مذكورة فصّل الحديث فيها كبار الأطباء، لعل من أكثرها رواجا وسرية ـ الأغذية المتصلة بالقوى الجنسية - وقد ظلت هذه المادة تتكرر منذ القدم فيما يكتب، حتى وصلت إلى المتأخرين بأشكال دخلتها بعض الخرافة، ولم يعد الموضوع ظاهرة فسيولوجية بحتة كما كان عند الأوائل، مثل محمد بن زكريا الرازي في رسالته المشهورة في الباه التي نقلها الشيرازي في جمهورة الإسلام، بل اقترن بالطلاسم والمكتوبات السحرية وبقي الغذاء أساسا فيه.

النصوص الأدبية لا تقدم وصفات تفصيلية عن مكونات الغذاء وطريقة طهيه كما في كتب الطبخ، ولكنها تتجه للوصف الخارجي للأطباق

ويوضح شبوح أنه في كتب التراجم تتناثر نصوص عن أطعمة بعض العلماء من الطبقة الوسطى والزهاد الذين يتحكمون في شهوة البطن بأساليبهم المتغايرة، وبصبرهم على ذلك، وتقرأ في السياقات العرضية وغير العرضية للنصوص، ما تحفل به أسواق العواصم والمدن من مطاعم تستجيب لحاجات الطبقة الوسطى في الغذاء، ومن أطرف ما يمثلها نص بديع الزمان الهمذاني، وهو يسرد في المقامة البغدادية واصفا متطلبات غذاء دسم يقدمه مطعم شواء في أحد مسالك بغداد؛ ويقدم صورة حية طريفة لبطل مقاماته عيسى بن هشام، وهو يحتال على أبي عبيد أو أبي يزيد، البدوي الساذج، ويقنعه بمعرفته القديمة، ويؤكدها له بدعوته للغداء، قال "فأتينا شواء يتقاطر شواؤه عرقا، وتتسايل جوذاباته مرقا، فقلت: أفرز لأبي زيد من هذا الشواء، ثم زن له من تلك الحلواء، واختر له من ماء السماق، فانحنى الشواء بساطوره، على زبده تنوره، فجعلها كالكحل سحقا، وكالطحن دقا، ثم جلس وجلست حتى استوفينا، وقلت لصحاب الحلوى: زن لأبي يزيد من اللوزنيج رطلين، فهو أجرى في الحلق، وأمضى في العروق، وليكن ليلي العمر، يوميّ النشر، رقيق القش، كثيف الحشو، لؤلؤي الدهن، كوكبي اللون، يذوب كالصمغ؛ قبل المضغ، فوزنه ثم قعد وقعدت، وجرد وجردت، حتى استوفيناه، ثم قلت ما أحوجنا إلى ماء يشعشع بالثلج، ليقمع هذه الضارة، ويفثأ هذه اللقم الحارة".

ويرى أن النصوص الأدبية التي تتخللها أخبار الأطعمة لا تقدم وصفات تفصيلية عن مكونات الغذاء وطريقة طهيه كما نرى ذلك في كتب الطبخ، ولكنها تتجه للوصف الخارجي للأطباق، وتصفها وصفا فنيا بحسب براعة الكاتب، وتتخيل طعمها وطيب رائحتها وتشبهها خير تشبيه، فكاتب الرسالة البغدادية يشبه الرغيف الذي رشت عليه الحبة السوداء (الشونيز) بالبدر منقطا بالنجوم، واللقمة منه تبلغ القلب مني شهوته، والجبن الذي تدمع عين آكله من حرافته كأنه فارق أحبابه، والجوز الذي طعمه أحلى وألذ من العافية في البدن، والملح الداراني الأبيض كأنه الفضة المسبوكة ـ والمائدة كأنها عروس مجلية.

ويقول "وفي هذه الرسالة البغدادية وصف لمائدة حافلة بالمآكل الشهية تصفها بالتتابع النوعي وحسن العرض، والإثارة، وهي تصنع تصورا متكاملا لما يحفل به الخوان في المناسبات الكبرى، حيث تحشد فيه كل الإمكانات لإظهار الكرم والتنوع والتفنن في المأكل والمشرب والحفاوة بالضيوف الذين سيظلون يذكرون لصاحب الوليمة صنيعه الكبير؛ يقول مبتدئا بوصفه الخوان وما عليه:

"خوان ذو قوائم نحتت من خشب الخلنج الخراساني، يشتغل الإنسان بالنظر إليه عن الأكل، فوقه رغفان عليها الحبة السوداء.

صحاف صينية "سكاريج" ملونة فيها:

ـ الجبن الدينوري الحريف الذي يفتق الشهوة.

ـ زيتون دقوقي مدخن مخلوط باللوز المقشر والصعتر؛ تنشطر الزيتونة على الرغيف فتملؤه زيتا، ويتدحرج كأنه بنادق عنبر.

ـ جبن رومي مقلو، تأكل القالب برغيف، فلا ينفخ ولا يعطش.

ـ الجوز المقشر الأبيض الحديث الذي طعمه أحلى من العافية في البدن.

ـ خيار بخل.

ـ باذنجان مخلل معمول بماء حب الرومان، يضرس قبل أن يؤكل.

صحائف "سكاريج" بلور، بها: ماء الليمون، ماء الحصرم، ملح داراني كالفضة المسبوكة، اللوز المرضوض، الفستوق المقشور، السمسم المقلو، كمون كرماني، بصل مراغي.

غضائر البوارد، بها: فراريج كسكرية، وكبود الدجاج المسمن، وصدور البط بماء التفاح وماء حب الرمان والتوت الشامي، ودجاج بالجلاب، ولب الفستوق واللوز والكرويا، وحماض الأترج والليمون.

غضائر فيها: الأسماك المملحة المتنوعة، من شبوط ويني وسرة وقاش.

من الشواء:

بطوطة كسكرية، جداء صرصرية، دجاج مسمنة هندية، حملان رضع تركمانية، مدورة، طولها وعرضها واحد، فراخ مسمنة.

وتحت ذلك: جوذابة خشخاشية، وجوذابة الرقاق، وأرز بلبن حليب قد ترك فيه الزعفران وذر سكر مدقوق. زلابية قاهرية، وزلابية محشوة بدهن الفستق.

مائدة كأنها عروسة مجلية محفوفة بكل طريفة، فمن قاني بإزائه فاقع، ومن حالك تلقاءه ناصع، الجدا في حمرة الورد، وغيرها في بياض القباطي. ويرفع الطعام، ويأتي فراش متهلل الوجه، نظيف الثياب، حسن الشمائل، خفيف الروح، بيده سلطاني مقوم كأنه مراود الفضة، فيتناول الجماعة منه بلطف. ويقدم أشنانا أبيض وصندل مقاصيري، وذريرة المسك والكافور، وحبات الورد الجوري، سلطانيا ملوكيا، يرغي كما يرغي الصابون ويزيد كالسدر. ويقدم طشت شبه، عديم الشبه، وإبريق نقرة قطعة واحدة من الطراز الأول، معتضدي، مخنق، مليح العروة، أنبوبته منه؛ فيغسل القوم أيديهم، ويناولهم منديلا دبيقي مخمل متوكلي طرازي عمل مصر.

يقول صاحب الرسالة: هذه أوصاف موائد العراق. وفيما أرى أن تعدد الأطباق للأصناف الواحدة كالحوام والبوارد والحلوى، إنما تقدم للاختيار حتى يجد كل واحد حاجته مما يناسب طبعه حسب القواعد الصحية التي عرفت عن الأغذية في ذلك الزمان.