درس سياسي لحركة النهضة التونسية

فوت إسلاميو تونس الفرصة ليثبتوا للشعب أن الوطن مقدم على التنظيم.

تصورت حركة النهضة الإسلامية في تونس أن تمتعها بمشروعية قانونية يمكنها من القفز على كل الحبال السياسية. واعتقدت أن فوز زعيمها راشد الغنوشي برئاسة البرلمان يعني القبض على زمام الأمور وتوجيه دفتها. لكن ما قدمته قوى حزبية في البرلمان أخيرا أثبت أن تونس لا تزال عصية على السيطرة من قبل التيار الإسلامي، وهناك تفاصيل أخرى تؤكد أن هذا التيار فقد جزءا مهما من رصيده في وجدان الشارع.

رفضت غالبية الكتل السياسية التصديق على حكومة الحبيب الجملي التي رشحتها حركة النهضة، وأمضت نحو شهرين في ترتيبات وتباديل وتوافيق لتمريرها بالصيغة التي تريدها، حيث وضعت داخلها أسماء من الصفين الثاني والثالث من المنتمين إليها، مع أن الجملي قدمها لرئيس الجمهورية قيس سعيد أولا على أنها حكومة كفاءات مستقلة، لكنه أبدى تحفظات لم يعبأ بها الجملي، ثم عرضها الأخير للتصويت على البرلمان بهذه الصفة وهو على يقين أنها ستنال أغلبية مريحة، بعد قبول حزب قلب تونس التعاون مع حركة النهضة، وضمان وقوف ذوي التوجهات الإسلامية في البرلمان معهما.

جاءت الصدمة من قلب تونس نفسه الذي لم يصوت لصالح الحكومة بعد أن نالته انتقادات حادة واتهامات بتخليه عن مبادئه، وأخفق الجملي في نيل الثقة اللازمة من بقية الأحزاب. إنهار مشروع كانت النهضة ترى أنه سيمر بسهولة، ولم تدرك أن قطاعا كبيرا من الشعب التونسي صب غضبه على المصير الذي وصل إليه عقب تقدم التيار الإسلامي الصفوف، وتيقن أن تشكيل حكومة بمعرفة النهضة سوف يقود لمزيد من المشكلات، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمات اقتصادية واجتماعية وأمنية متراكمة.

وجه رفض الحكومة ضربة قوية للنهضة، وفرض عليها إعادة النظر في كثير من التصرفات. فالتونسيون أفراد ونواب في البرلمان استشعروا الخطر وتكاتفوا حول عدم تمكينها، ومنعها من التحكم في مفاصل الدولة، ورأوا أن الوصول إلى النقطة التي تعمل لأجلها النهضة قد تدخلهم في نفق مظلم، مع التطورات المتلاحقة في بعض دول الجوار وتعاظم دور المتشددين، وميل حركة النهضة لتحويل تونس إلى فناء خلفي لدعم التدخل التركي في ليبيا.

استقبلت تونس الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وذهب الغنوشي إلى أنقرة بعد ذلك، وكانت هناك ترتيبات لتطوير التعاون إلى الشق العسكري، بما يخدم أهداف تركيا في ليبيا، غير أن ردات الفعل الشعبية والسياسية أجهضت هذا السيناريو، وتركت أصداءها في البرلمان الذي عاقب قيادة حركة النهضة على هذا التوجه الغامض برفض تشكيلتها الحكومية، والحد من التصورات التي رادوتها لتسخير البرلمان في خدمة أغراضها السياسية، وتوظيف الصلاحيات الكبيرة التي يتمتع بها رئيس الحكومة.

فوت إسلاميو تونس الفرصة ليثبتوا للشعب أن الوطن مقدم على التنظيم، وبنوا تقديراتهم على نجاح مناوراتهم في استقطاب وجذب بعض الأحزاب إلى صفهم، ونسوا أن تجاربهم القاتمة خلال الفترة الماضية أصبحت تتقدم خطواتهم السياسية. وعلم من يتحالفون معهم من قوى مدنية أن النار سوف تلسعهم. لذلك وجدت بعض الأحزاب الممثلة في البرلمان الفرصة مواتية لاستعادة قدر من ثقة المواطنين عبر الرفض القاطع لحكومة الجملي، وتوجيه رسالة لمن وقفوا خلفها بضرورة التمسك بقيم المجتمع المدني التي دفعت تونس ثمنا باهظا لها.

الأدهى أن عبير موسي رئيسة الحزب الدستوري، تخوض معركة لعزل راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان، وتتجه لجمع توقيعات من ثلث أعضاء البرلمان لهذا الغرض. ربما لا تستطيع الحصول على الأغلبية المطلقة اللازمة لسريان العزل، لكن الإشارة التي تنطوي عليها تتجاوز تصفية الحسابات السياسية بين عبير والغنوشي، وتكفي في هذه المرحلة للتأكيد أن هناك غضبا عارما على حركة النهضة. ولم تعد التحركات الناعمة التي درجت عليها الحركة تنطلي على كثيرين. وباتت هناك قناعة لدى فئة عريضة من الأحزاب بأن التعاون معها تحت أي عنوان سياسي عريض يؤدي إلى أزمات قد يصعب معالجتها.

انتقلت الكرة إلى ملعب الرئيس قيس سعيد، وعليه اختيار مرشح لتشكيل حكومة من المتخصصين والكفاءات الحقيقية خلال فترة شهر وتستطيع نيل ثقة البرلمان. وإذا فشل سوف يتجه التونسيون إلى انتخابات تشريعية في غضون 45 يوما، عقب انتهاء المهلة المخولة للمرشح الجديد. وقتها ربما يتمكن الشعب التونسي من معاقبة القوى التي خانته وفشلت في التجاوب مع تطلعاته، وفي مقدمتها النهضة التي تتراجع مكاسبها لأنها تنشغل كثيرا بمصالحها وتنظيمها حتى لو قاد ذلك إلى زيادة الأزمات.

أمام الرئيس التونسي قيس سعيد فرصة ليثبت أنه فعلا يقف على مسافة واحدة من جميع القوى الحزبية، ولم تؤثر ميوله المحافظة في التعاطف مع حركة النهضة أو غيرها من القوى الإسلامية. وبذلك يبدد الهواجس التي انتابت قطاعا كبيرا من المواطنين الذين اعتقدوا أنه سيوفر غطاء للنهضة في مؤسسة الرئاسة. غير أن الرجل نجح في تخطي بعض الاختبارات البسيطة، ومنها إعلان تحفظه على ستة من أعضاء الحكومة التي قدمت للبرلمان، وعدم انسياقه وراء إغراءات أردوغان والغنوشي لتوريط تونس في دعم التدخل التركي في ليبيا.

تكشف الشخصية التي سيختارها قيس سعيد، بعد إجراء مشاورات مع القوى الحزبية الممثلة في البرلمان، جانبا من التوجهات الحقيقية التي يحملها. فهو مطالب بالتأكيد أنه مستقل، وهي الصفة التي حصل بها على أصوات كثيرة من التونسيين وأوصلته إلى مقعد الرئيس. ومطالب أيضا أن يثبت قدرته على فهم المشكلات التي تمر بها البلاد، وتقديم الحلول المناسبة لها بدون مواقف إيديولوجية مسبقة. ونجاحه في هذا الاختبار سوف يوفر له قاعدة شعبية متينة تجعله يتحلل من أي قيود سياسية يحاول البعض فرضها عليه.

تلقت حركة النهضة درسا سياسيا مهما، مفاده أنها لم تفهم حتى الآن مزاج الشعب التونسي، بينما فهم هو الكثير من ألاعيبها، مؤكدا قدرته في الدفاع عن مكاسبه، وعدم السماح لقيادتها تحويل البلاد لقاعدة لأصحاب الميول العقائدية. الأمر الذي يجعلها تعيد التفكير في تقديراتها كي لا تقع في أزمة تنظيمات أخرى، أغراها الطمع في السلطة حتى سقطت في فخاخها.