سائق الأوتوبيس الضرورة

سائق الأوتوبيس على قناعة تامة بأنه هو مالكه الوحيد، ولا يحق لأحد الاعتراض على طريقته في القيادة.

نتيجة للتذبذبات والتقلبات السياسية في الدول العربية، تنتشر القصص والمأثورات والنكات التي تُعبر بعفوية وصدق، عن أهم السمات التي تميز كل مرحلة، وكلما كانت الحياة السياسية مغلقة أمام الممارسات الطبيعية، وكلما ازدادت قسوة الأنظمة على من يعارضون سياساتها، تتفتق قريحة الناس عن وسائل للمقاومة السلمية، يعبرون بها عن غضبهم وعدم رضاهم، مُستخدمين السخرية في أبسط صورها، لإيصال رسالتهم.

وفي السابق كانت الأنظمة تكتفي برصد تلك التصرفات دون أن تتخذ أي إجراء يزيد من الحنق الشعبي، لكن في الآونة الأخيرة، وتحديداً بعد ثورات الربيع العربي، تغيرت سياسة الرصد السلبي، إلى الرصد المنتهي بقطع الألسنة.

ومن أروع القصص المُعبرة عن ثقافة المرحلة الحالية، تلك التي كان بطلها سائق أوتوبيس للنقل العام، حيث تحكي القصة أنه ذات يوم صعد الناس إلى أحد الأوتوبيسات العامة، وحين بدأ السائق بالانطلاق، ظهرت علامات التهور بوضوح على أسلوبه في القيادة، حيث كان ينحرف بالأوتوبيس يميناً ويساراً وكأنه طفل يلهو بلعبة أهداها له والده، لم يكن يؤرقه أو يضع في حسبانه أي اهتمام أو اعتبار للبشر الذين يستقلون هذا الأوتوبيس، فكان ينطلق فجأة منحرفاً عن الطريق، ويصعد فوق الأرصفة ثم يهبط فجأة كما صعد، ويغني في نشوة مع إحدى الأغاني السوقية الهابطة المنتشرة هذه الأيام، الصادرة بصوتٍ عالٍ من جهاز كاسيت يضعه أمامه، وكان الناس يتحركون بعنف في مقاعدهم كمن يجلسون على الجمر، ويصطدمون بعضهم ببعض، وبعضهم بالكراسي الأمامية والنوافذ الجانبية، ولا يستطيع أحد من الواقفين أن يستقر في مكانه دقيقة واحدة، بل يترنحون يمينا ويساراً كمن مسهم الجن، جراء القيادة السيئة لهذا السائق وكثرة انحرافاته بالسيارة بسرعة عالية.

تلك المخمضة المستمرة للناس دفعت أحد الركاب الغاضبين والمصابين إلى أن يطلق تعليقاً بصوتٍ عالٍ قائلاً: إيه السواق الحمار اللي مش عارف يسوق ده!

لم يزد التعليق عن تلك العبارة العفوية التي اضطر صاحبها أن ينطق بها بعدما انخلعت بعض أضلاعه من الاصطدام بظهر الكرسي الذي أمامه نتيجة استخدام السائق المفاجئ للفرامل لتفادي أن يصطدم بسور الكوبري العلوي الذي كان يعبره بسرعة وتهور.

حين وصلت تلك العبارة الغاضبة إلى مسامع السائق، ضغط على الفرامل فجأة بكل قوة، فسقط الناس من مقاعدهم، ووصل الواقفون في نهاية الأوتوبيس طيراناً بلا أجنحة ليجدوا أنفسهم عند السائق، الذي هب واقفاً عن كرسيه غاضباً مزمجراً كحيوان أصابه سهم طائش، مبدياً للناس وجهه المتحجر، وجسده الضخم المتجبر، وأطلق صيحة رهيبة في اتجاه الركاب، انخلعت معها قلوبهم: مين ابن الـ Dog إللي قال عليّ حمار مش عارف أسوق؟

وإزاء شدة احتياج الركاب إلى السائق لإيصالهم إلى وجهتهم، ولعدم وجود من يستطيع أن يحرك الأوتوبيس من مكانه غيره، أخذ الركاب ينظرون إلى بعضهم البعض، وشخصت أبصارهم إلى لا شيء في خوف وهلع، واستباقاً لأن يصيبهم عقاب السائق الغاضب، وجدوا أنفسهم مُجبرين على التضحية بالشخص صاحب التعليق، ومخترع الوصف الذي أثار حفيظة السائق، وما أن أشاروا إليه بأصابعهم، حتى انطلق نحوه السائق كالرصاصة مقترباً منه، بعضلاته المفتولة، رافعاً يده في الهواء تمهيداً لهبوطها على مؤخرة رأسه (قفاه) ليعلمه الأدب، فما كان من هذا الرجل إلا أن قام إليه مستبقاً لحظة وقوع الواقعة، ببشاشة مصطنعة مرعوبة قائلاً: العفو يا حبيبنا وتاج رأسنا، أنت سيد السواقين، إحنا اللي شعب ابن Dog ما بيعرفش يركب!

هذه القصة تدل بعفوية شديدة جداً على المكانة التي وصل إليها المواطن العربي، أمام صاحب القرار، أياً كانت وظيفته، صغرت أم كبرت، فهي تعبير شديد الوضوح عن كيفية تحكم شخص واحد في مصير أعداد من الناس، سواءً كانوا عشرات كحالة الأوتوبيس، أو ملايين كحالة الوطن، فسائق الأوتوبيس، لديه من القناعة ما يجعله يرى أنه هو صاحب الأوتوبيس، والمتصرف الأوحد في مصير من ألقى بهم حظهم العاثر لاستخدامه، وأنه لا أحد يحق له أن يعترض على تصرفاته أو طريقته في قيادة الأوتوبيس، لم يدر بخلده لحظة واحدة أنه موظف عام لدى هؤلاء الناس، يؤدي وظيفته التي هي خدمة عامة مقابل أجر، وهي لا تخوله سلطة التحكم في مصائر الناس أو معاقبتهم حين يتذمرون، خصوصاً إذا كانت تصرفاته الضارة بهم صارخة.

تلك هي المعضلة التي نعيشها. سائق الأوتوبيس على قناعة تامة بأنه هو مالكه الوحيد، ولا يحق لأحد الاعتراض على طريقته في القيادة، وكذلك من هم أكبر من سائق الأوتوبيس، كلُ في موقعه، يعتبر أن هذا الموقع ملكاً خالصاً له، يديره كيف يشاء، ولا يحق لأحدٍ من العالمين الاعتراض عليه مهما كانت إدارته سيئة، حتى وإن مست حياة الناس أو عرضتهم للمخاطر، وفي هذا الجو الخانق، تنتشر وتتنامى ثقافة النفاق لأصحاب القرار، طلباً لفتاتهم، أو درئا لبطشهم، والضحية الأخيرة لن يكون المواطن فحسب، بل هو الوطن.

بعيداً عن الاصطياد في الماء العكر، وبعيداً عن أسطوانة هدم الدولة وكأنها دولة من سراب، يجب أن نجد في أنفسنا الشجاعة لنتساءل: هل تلك الأساليب ستؤدي فعلاً إلى تقدم أو ازدهار من أي نوع؟

ما أعرفه، ويعرفه غيري، أن ما يحدث هو عودة لأيامٍ خلت، وسياسات ولت، وأساليب اندثرت، والعمل على إحياءها هو ضرب من المستحيل، فالقوة المفرطة لا بد لها من ضعفٍ، والقبضة القوية لا مفر أمامها من وهنٍ.

من لا يتقدم، فهو يتأخر.