
سرد يلامس الروح.. قراءة في 'زمن نجوى وهدان' لمجدي جعفر
في زحمة الحياة المعاصرة حيث تذوب الفردانية في بحر الجماعية، تأتي رواية "زمن نجوى وهدان" للكاتب مجدي جعفر كصرخة وجودية تعيد تعريف الذات الإنسانية في مواجهة تقلبات الزمن. هذه الرواية ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي رحلة عميقة داخل النفس البشرية، تُنسج بخيوط من اللغة الشعرية والرمزية الغنية، لتقدم للقارئ مرآة تعكس تناقضاتنا وأحلامنا وخيباتنا. الكاتب هنا لا يروي قصة، بل يصنع عالماً كاملاً تنبض فيه الشخصيات بحيوات متشابكة، تدفع القارئ إلى التساؤل عن ماهية الزمن الذي نعيش فيه، وعن تلك المسافة الشاسعة بين ما نريد أن نكون وما نحن عليه فعلاً.
المؤلف موهوب في إبداع في العمارة السردية؛ فتتعدد الأصوات وتتداخل الأزمنة؛ حيث يُظهر جعفر براعة فائقة في هندسة البناء الروائي وسردية الزمن والهوية، حيث يعتمد تقنية السرد المتعدد الأصوات التي تتيح للشخصيات التعبير عن وجهات نظر متباينة. النص يتحرك بسلاسة بين الماضي والحاضر، مخلّفاً فجوات زمنية مقصودة تدفع القارئ إلى المشاركة الفاعلة في ملء الفراغات. هذا التداخل الزمني ليس تقنية شكلية فحسب، بل هو انعكاس لرؤية الكاتب الفلسفية للزمن ككيان غير خطي، حيث تتعايش اللحظات وتتصارع في الوعي الإنساني.
بين شاعرية السرد وانزياحاته ترى اللغة في هذه الرواية تحمل بصمة أسلوبية فريدة، فهي تتراوح بين الفصحى والعامية بسلاسة، مستخدمة الانتقالات اللغوية كأداة تعبيرية. وجعفر يصوغ جمله بطريقة إيقاعية تشبه النثر الشعري، حيث تتدفق الكلمات كأنها موسيقى داخلية تعكس حالات الشخصيات النفسية. الاستعارات والرموز المنتشرة في النص (مثل "الكتاب المغلق"، "الزمن الضائع"، "الصدى البعيد") ليست زخارف لغوية، بل أدوات تحليل نفسي تكشف عن أعماق الشخصيات.
شخصيات الرواية (نجوى، هند، الناقد، السكرتير،…) ليست كيانات منفصلة، بل تمثل أجزاء من الذات الإنسانية الممزقة. نجوى تجسد الحنين إلى الماضي والخوف من المستقبل، بينما هند تمثل التمرد على القيود والبحث عن الحرية. والكاتب يبتعد عن التبسيط؛ مقدماً شخصيات معقدة تحمل تناقضاتها الداخلية، مما يجعلها قريبة من القارئ؛ وكأنها تعيش داخل كل منا.
والزمن في هذه الرواية ليس مجرد إطار للأحداث، بل هو قوة فاعلة تغير الشخصيات وتعيد تشكيل علاقاتها. جعفر يتعامل مع الزمن كعدو وحليف في آن واحد، كسجن وكنافذة أمل. هذا التصوير يصل ذروته في المشاهد التي تتداخل فيها الذكريات مع التوقعات، حيث يصبح من المستحيل الفصل بين ما كان وما يمكن أن يكون.

اقتصاد الرواية اللغوي مليء بالدلالات؛ حيث يبهرنا جعفر بجماليات الأسلوب؛ فالكاتب يمتلك قدرة نادرة على قول الكثير بكلمات قليلة. جمله القصيرة تحمل دلالات عميقة، وكلماته المختارة بعناية تخلق صوراً ذهنية قوية. هذا الاقتصاد اللغوي لا يعني الجفاف، بل على العكس، فهو يترك مساحة للقارئ لتأويل النص وإسقاط تجاربه الشخصية عليه. والحوارات في الرواية ليست وسيلة لتقدم الأحداث فحسب، بل هي نوافذ تطل على النفس البشرية وتعكس الأعماق. جعفر يصيغ حواراته بحيث تكون واقعية من ناحية، وحاملة لطبقات من المعاني من ناحية أخرى. الحوار هنا أشبه بمسرحيات داخلية تعرض الصراعات النفسية للشخصيات.
والرواية غنية بالرموز التي تلامس العمق الإنساني، وتتجاوز السياق المحلي لتصل إلى العالمية. الكتاب المغلق، الساعة المتوقفة، الظل الطويل - كلها رموز تحمل دلالات متعددة تختلف باختلاف تجربة القارئ. هذه الرمزية لا تكون ثقيلة أو متكلفة، بل تنساب بشكل طبيعي ضمن نسيج السرد.
أخيرا.. "زمن نجوى وهدان" ليست رواية تُقرأ وتُنسى، بل هي عمل أدبي يخترق حواجز الزمن ليظل حاضراً في ذاكرة القارئ. مجدي جعفر قدّم لنا أكثر من قصة، لقد منحنا مرآة نرى فيها أجزاء من أنفسنا، من مخاوفنا وأحلامنا. هذه الرواية تطرح أسئلة وجودية عميقة دون أن تقدم إجابات جاهزة، تاركة للقارئ حرية التأويل والاكتشاف.
وفي زمن أصبحت فيه السرعة سيدة الموقف، تأتي هذه الرواية لتذكرنا بأهمية التوقف والتأمل، بأهمية أن نستمع إلى أصواتنا الداخلية قبل أن نغرق في ضجيج العالم الخارجي. ربما هذه هي الرسالة الأهم التي يوجهها جعفر لقرائه: أن الزمن الحقيقي ليس ما تقيسه الساعات، بل هو تلك اللحظات التي نعيشها بوعي كامل، لحظات نكون فيها حاضرين تماماً مع ذواتنا ومع الآخر. وبين دفتي هذه الرواية، يجد القارئ ليس مجرد متعة أدبية، بل فرصة للقاء الذات في أعمق تجلياتها.