سكين الشعر تحت طاولة الذاكرة في ديوان الإيراني جروس عبدالملكيان

ديوان 'قبضتنا تحت الطاولة' يمثل تجربة شعرية فارقة تمزج بين اليومي والوجودي وتكشف عمق الألم الإنساني بلغة رمزية مكثفة. تتحول التفاصيل الطهرانية إلى استعارات عن الحرب والهوية والفراغ.

يُعدّ الشاعر الإيراني جروس عبدالملكيان - المولود عام 1980 في حي ستار خان بطهران - صوتاً شعرياً فريداً في المشهد الأدبي الفارسي المعاصر. نشأ في كنف عائلة أدبية حيث كان والده الشاعر محمد رضا عبدالملكيان من نهاوند، والذي اختار لابنه اسم جبل قريب من مسقط رأسه، في إشارة رمزية إلى الارتفاع الشعري المتوقع. بدأ كتابة الشعر في الحادية عشرة من عمره، ونشر أعماله الأولى في مجلتي "كيهان بشاتشا" و"سوروش تانيش"، قبل أن يتعمق في دراسة النقد والنظرية الأدبية عام 1998، حيث نشر قصائده الناضجة في دوريات متخصصة مثل "كرنامه" و"عصر الخميس".

يتميز ديوانه "قبضتنا تحت الطاولة" - الذي نقلته للعربية دار خطوط وظلال بترجمة مجاهد مصطفى، بلغة شعرية تجمع بين الواقعي والغرائبي، حيث تتحول المفردات اليومية إلى رموز وجودية عميقة. تظهر الطاولة في هذا الديوان كفضاء رمزي تختبئ تحته الأسئلة الوجودية الكبرى، بينما تتدفق القصائد بإيقاع يشبه النهر الجليدي في تعاونه الصامت بين السكون السطحي والحركة العنيفة في الأعماق.

ينطلق عبدالملكيان من تفاصيل الحياة الطهرانية اليومية ليخلق عالماً شعرياً تتصارع فيه الذاكرة الفردية مع التاريخ الجمعي. تتحول الحرب في نصوصه من حدث سياسي إلى حالة وجودية دائمة، حيث تصبح البندقية بين يدي الطفل استعارة مركبة عن البراءة المسلوبة والعنف الموروث.

تعتمد لغته الشعرية على الانزياح الدلالي والمفارقة الوجودية، كما في وصفه لنفسه كميت مع استمراره في مصافحة الأصدقاء، أو تحويل الألوان إلى كائنات حية تشيخ وتذبل أمام القارئ.

يبرز في الديوان أسلوب التكرار الذي يتحول من مجرد تقنية بلاغية إلى وسيلة لكشف الرتابة المزمنة للحياة المعاصرة، التي يشبهها الشاعر بسجين يدور في زنزانة دائرية. كما يتميز بقدرته على تحويل الفراغات - مثل الغرفة أو الزنزانة أو المساحة تحت الطاولة - إلى مساحات دلالية مفتوحة على تأويلات متعددة.

تظهر طهران في هذه النصوص ليس كمدينة جغرافية، بل ككائن حي يتنفس بالألم والأسئلة الوجودية، بينما يحمل الإنسان المعاصر تراثه الثقافي كحقيبة ظهر ثقيلة في رحلته نحو المجهول. يصوغ عبدالملكيان رؤية وجودية عميقة تختزل الزمن في لحظات شعرية مكثفة، حيث يصبح الماضي والحاضر شظايا مرآة مكسورة تعكس أجزاءً من الحقيقة المتجزئة.

يتميز الديوان بقدرته على تحويل اللغة نفسها إلى سكين تشريح تقطع سطح الواقع لتكشف عن الأعماق المنسية. تتدفق الصور الشعرية بتناقضها الجميل بين القسوة والرهافة، كجرح مفتوح يطرح أسئلة الهوية والانتماء في عالم متزايد التعقيد. تصبح النملة كائناً متأملاً، والشجرة العجوز سجلاً للزمن الضائع، في رؤية فنية تجمع بين الحس الميتافيزيقي والواقعية النقدية.

هكذا يتحول "قبضتنا تحت الطاولة" إلى متحف شعري لكل ما لا يقال في العلن، حيث تختبئ الأحلام المكبوتة تحت سطح الطاولة، وتهمس الشفاه بالأسرار للفراغ، بينما تنزف الجراح كلمات لا تقرأ إلا في عتمة الليل. هذه الرؤية الفنية الشاملة - التي تمتد من نهاوند إلى طهران، ومن الطفولة المبكرة إلى النضج الأدبي - تجعل من تجربة عبدالملكيان واحدة من أكثر التجارب إثارة للتفكير في الشعر الفارسي المعاصر، حيث يتحول الشعر من مجرد كلمات إلى جرح مضيء يكشف عن الجمال الكامن في رماد الواقع.

قصائد من الديوان

استرجاع

ليس لدينا المزيد من الوقت

تعالي بين أحضاني

غدًا

سأمتلك

أو ستغسلين السكين بالماء

لا شيء سوى هذه الأسطر القليلة

هل سيتم اختزال العالم في بضعة أسطر؟

أليس من الأفضل

أن يبقى الإنسان

دائما طفلا؟

وأن لا يكبر أبدا؟

الأفضل من ذلك

العودة إلى الوراء

حتى يتحول معطف الفرو الذي في الواجهة

فهدا

ويندفع نحو السهول البعيدة

حتى يعود الخيرزان

سيرا على الأقدام إلى الغابات

والطيور

نحو الأرض من جديد...

لا

إلى الخلف مرة أخرى

إلى أن يأخذ الله

الوقت الكافي لغسل يديه

وينظر إلى نفسه في المرآة

ربما بعد ذلك

سيتخذ قرارا آخر.

نملة

أنا ميت

وهذا ما أعرفه أنا وأنت فقط

أنت

التي تصبين الشاي في فنجانك.

أنا متعب جدًا لكي أجلس

أخرج إلى الأزقة

أصافح أصدقائي

كان شيئًا لم يكن.

حتى لو أدرت المفاتيح في القفل

لن يفتح قلبك

أعرف

فأنا ميت

وهذا ما أعرفه أنا وأنت

التي لم تعودي تقرئين الجريدة بصوت عال

لم تعودي تقرئينها

يدفعني هذا الصمت إلى الجنون

مجنون جدا لدرجة أنني

أود أن أصبح نملة

وأجعل لي عشا في حلق الناي

لكي تحمل الريح مذكراتي إلى مسكني

أو أنتزع نفسي بعيدا عن الظلمة

المرصوفة بالحصى

وتضعينني على فستانك الأبيض

أعرف

أنك سوف ترفضينني

في منتف هذه السطور

في منتصف هذه الأيام.

في هذه الأيام

تخيفني

صورة حبل يتدلى من السقف

ورجل معلق على الحبل

ظهره قبالتي

وهذا ما أعرفه أنا وحدي

أخشى أن أديره.

 

خيول

كنا بضعة خيول

بلا أجنحة

بلا عرف

بلا مراعي

محكوم علينا بالركض

الغبار تحت حوافرنا الرشيقة

نتجلى من حناجر الأزقة المتورمة

كان لدينا الكثير من الدموع لنذرفها

دموع طبيعية

في كومة من الغبار والغاز

محكوم علينا بالكسر

بينما القبضات التي نلوح بها في الهواء

نضرب بها على الطاولة

لقد أخفينا قبضاتل تحت الطاولة

أخفينا قبضتنا في أسرتنا

أخفينا قبضتنا في درج المطبخ

أخفينا قبضتنا في جيوبنا.

افتح قبضتي!

طهران تتألم

حيث أضع يدي

مهما كان المكان الذي أجلس فيه ساعتها

فهو الليل

مهما كان مكان الأرض...

لم أستطع إخبارك

بأن هذه القصيدة

قد تلقت رصاصة منذ سطورها الأولى

وإلا لكانت قد استمرت إلى ما لا نهاية.