صنعت الولايات المتحدة السم الذي تذوقه

هزيمة الأميركان كانت من صنعهم بعد أن قادوا لسنوات حربا قذرة ضد المقاومة العراقية.

حاربت القوات الأميركية بعد احتلال العراق بضراوة من أجل أن تثبت أقدامها على أرض شعب كانت تجهله. أتاحت للشركات الأمنية التابعة لها أن ترتكب أشد الجرائم قذارة في حق المدنيين، بل أنها لم تجد ما يمنعها من استعمال الأسلحة المحرمة ضد مدن صغيرة، أُتهمت بإيواء المقاومين الذين تم تصنيفهم إرهابيين، بعد أن سُمح لتنظيم القاعدة باجتياز الحدود العراقية، شرقا وغربا لكي تختلط الأوراق فيتصدر أبو مصعب الزرقاوي وهو أردني الجنسية المشهد ويضفي وجوده نوعا من الشرعية على قتل العراقيين في مدن قاومت الاحتلال منذ لحظته الأولى كما هو حال الفلوجة التي شن عليها الاميركيون حربين في سنة واحدة. شيء يصعب أن يحدث في حكايات الرعب الخيالية. سيدة العالم وهي القوة العسكرية العظمى التي لم يعد ينافسها أحد أو تقف في طريقها قوة أخرى تشن حربا يُستعمل فيها الفسفور الأبيض على مدينة صغيرة لم يكن أحد في العالم قد سمع باسمها من قبل. تحولت الفلوجة إلى هيروشيما القرن الحادي والعشرين. غير أن تلك الجرائم لم تكن إلا غطاء يُخرج الاحتلال عن مساره المتوقع.

أثبت الأميركان من خلال مسلسل تدريجي أنهم لم يكن ينوون البقاء بعد أن حققوا هدفهم في تدمير العراق بدءا من إسقاط نظامه وانتهاء باجتثاث الروح المقاومة للشعب العراقي. بدا الأمر كما لو أنه عبثيا. ترى ما الذي استفاده الأميركان من الخزي الذي لحق بهم بعد أن قرر الرئيس الأسبق باراك أوباما سحب قواته من العراق وتركه لقمة تتقاسمها الميليشيات التي صنعت لها الولايات المتحدة واجهة تحت عنوان النظام الطائفي الذي تتزعمه شخصيات رثة لا تاريخ سياسي محترم لها وكل ولائها إلى يران؟

سلمت الولايات المتحدة العراق إلى إيران. ثروته ومجتمعه ومستقبله وأجياله القادمة. ترابه وسماءه وهواءه وفصول سنته. لم يعد العراقيون يملكون شيئا. مثلما سلم البريطانيون فلسطين إلى اليهود سلم الأميركان العراق إلى إيران. أما اتفاقية الإطار الإستراتيجي التي وقعها نوري المالكي مع الولايات المتحدة عام 2008 فقد كانت عبئا على الأميركان. وهو ما جعلهم يتمسكون بواحد من بنودها. ذلك البند الذي يتعلق بقواعدهم العسكرية التي صارت اليوم هدفا لقصف الميليشيات الشيعية التي كانت محل ثقة بالنسبة لهم. أما البنود الأخرى التي تتعلق بالتعليم والثقافة والتنمية والقضاء والبنية التحتية فقد وضعتها الولايات المتحدة على الرف. سنوات طويلة مضت وإيران تستنزف العراق اقتصاديا بعد أن ألحقته بها وسلبته سيادته الوطنية وجعلت منه مجرد واجهة لحربها ضد العالم تحت واجهة المقاومة الإسلامية. خلاصة ما حدث أن العراق الإيراني كان اختراعا أميركيا في الوقت الذي فيه بعض مناصري الإحتلال يحلم بولادة عراق أميركي. لقد صار ذلك العراق من الماضي. الآن من المؤكد أن الأميركان يشعرون بالندم لأن العراق الذي كان بين أيديهم صار مصيدة لجنودهم. كل حساباتهم كانت خاطئة.

لم تحتفظ الولايات المتحدة بالعراق الذي لم تحافظ عليه. لقد هربت من خرابه. هزيمة الأميركان كانت من صنعهم بعد أن قادوا لسنوات حربا قذرة ضد المقاومة العراقية وصلت قذارتها إلى درجة التورط مع إيران في اختراع تنظيم داعش الذي اكتسح الجزء الأكبر من العراق ودمر مدنه ومزق نسيجه الاجتماعي وانحط بثقافته بحيث صار لقب "دواعش" يُطلق على أفراد طائفة بعينها بعد أن كانوا يُتهمون بكونهم من أزلام النظام البائد وأيتام البعث. في حقيقة الأمر إن الولايات المتحدة التي نكثت بكل وعودها انزلقت إلى موقع، صارت فيه مضطرة إلى مطاردة جماعات مسلحة، لن تتمكن بقدراتها العسكرية العظيمة من اصطياد رؤوسها. سيكون عليها أن تبذل جهدا عظيما من أجل لا شيء. ذلك لأن زعماء الميليشيات العراقية لا يمثلون شيئا بالنسبة للحسابات الإيرانية. وبذلك تكون إيران قد نجحت في استنزاف قوة الولايات المتحدة في لعبة، لا يليق بها كقوة عظمى أن تشترك فيها. علينا أن نتخيل إيران وهي تضحك من وراء ستار ميليشياتها.

الأدهى من ذلك أن الولايات المتحدة وبحجة عدم توسيع الحرب في المنطقة لا ترغب في الرد على إيران وهي تعرف أنها مسؤولة بشكل مباشر عما تتعرض له قواتها من ضربات قاتلة. الثابت أن هناك حرصا أميركيا على إيران وليس على المنطقة وهو ما يضع الأميركان في موقف متردد. فلا أمل في انتصارهم على الميليشيات وفي المقابل فإن الديمقراطيين سيخسرون في الانتخابات القادمة ما لم يرد الرئيس جو بايدن على إيران.