صورة ذهنية مشبوهة لمتحدثي الفصحى... لهذه الأسباب

فصام متعدد الأوجه ثقافيا واجتماعيا بين متحدث العامية ومتحدث الفصحى.

الإجهاز على اللغة العربية الفصحى بدأ مع السنوات الأولى في القرن العشرين، توارت الفصحى، إما بسبب احتلال الأراضي العربية الذي امتد لأكثر من نصف قرن، فانتشرت لغة بين الفصحى وعامية أهل البلد، وإما بسبب سياسي وهو أنَّ الفصحى صارت لغة تمييز للمتدينين دون سواهم، كما تفعل الأقليات في كل بلاد الأرض، تختار لها لغة لا يفهمها غيرها، ويحافظون عليها متوارثة جيلاً عن جيل، ربَّما دون أن تتطور.

وفي مصر، حصرت السينما التحدث باللغة العربية الفصحى ما بين الأعمال التاريخية أو الدينية، في محاولة لتقديم لغة بيضاء يفهمها كل من يتحدَّث العربية، باختلاف لهجاتها، أو على سبيل التندر من متحدثها الفقير –غالبًا- كمعلم في مدرسة، مثلما كان يؤدي الفنان عبدالوارث عسر دوره في مسرحية "أنا فين وأنتي فين"، أو شخصية المأذون "من يدون عقود النكاح" بزيهه الأزهري، ودخوله أمام الكاميرا قائلاً بصوت جهوري: "السلام عليكم"، أو الفنان عبدالمنعم إبراهيم في دوره بفيلم السفيرة عزيزة، وغيرهم من الشخصيات والمواقف الدالة وقتها على الموقف الكوميدي، إلا في فيلم واحد وهو "المراية" والذي أدى فيه الفنان نفسه دور معلم اللغة العربية، لكن بصورة العالم المتفوق أمام الجمال الشكلي الذي لا يمثل للشخصية شيئًا في الفيلم.

وجاء متحدث الفصحى في السينما المصرية أيضًا، كدلالة جهل وتخلف، مثلما أشير إلى شخصية عمران (الفنان محيي إسماعيل) في فيلم "خلي بالك من زوزو"، في صراع داخل أسوار الجامعة بين الديني الرافض لوجود طالبة (سعاد حسني) تعمل راقصة، وتيار عصري "مودرن" يقبل ذلك، ويدعمه بمنتهى القوة، حتى ينتصر في الأخير، برعاية شخصية المخرج المسرحي سعيد التي لعبها الفنان حسين فهمي، وتعبر عن الثقافة الأميركية التي تم الترويج لها باعتبارها المثال والنموذج في سبعينيات القرن الماضي.

غاية ما سبق، أن نشير إلى أنَّ اللغة العربية كان يتم الإشارة إليها وإلى متحدثها في السينما المصرية على هذا النمط، حتى اجتازت مصر مرحلة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والصراع الدائم بين الفصحى والعامية، ومن يقول إن الثانية لغة وليست لهجة، ولها أجروميتها، وبين من يقول إنه لا بديل عن الفصحى في التعبير، وهذا موضوع طويل، يحتاج بحث طويل، حول كون العامية لغة أو لهجة، لكن تيار من يتبنى العامية باعتبارها لغة، أيضًا آخذ في النمو، وظهر جيل من المبدعين بالعامية، يؤمنون أن الفصحى لغة ثقيلة عاجزة عن التعبير بسهولة مثلما تفعله العامية.

وحين هبَّت رياح "الإسلام السياسي" على مصر من كلِّ حدبٍ وصوب، بدأ الترويج في الشارع العربي على أهمية التحدث باللغة العربية الفصحى، وعلى كل متدين أن تكون الفصحى لغته اليومية، باعتبار أنَّها لغة القرآن الكريم، وأهل الجنة، وأن سواها بدعة، "وكل بدعة ضلالة". فكان الإقبال كبيرًا على التحدث بالفصحى من متدينين كثر، حتى كوَّنوا جماعات لها زيها الخاص المميز وانتشرت بسرعة بين الشباب، فتغيرت ملامح الشارع المصري، وبدا عليه التأثر بالشكل الديني أكثر من المضمون، تزامن ذلك مع ظهور تنظيم القاعدة، ونمو التيار السلفي، والإخوان، و"داعش"، وتطور التطرف في الشكل إلى سلوك إجرامي "إرهاب"، حتى أصبح الزي الذي اختارته هذه الجماعات واللغة التي تتحدث بها دالة على توجه سياسي.

تغيَّر المشهد تمامًا، فأصبح من يتحدَّث اللغة العربية في السينما يظهر وكأنَّه إرهابي، أو يدعو إلى ذلك، مثلما لعب الفنان عادل إمام دور علي في فيلم "الإرهابي"، فكان حديثه بالفصحى في النصف الأول من الفيلم بين جماعته، ولم يتحدث العامية "لغة الشارع"، إلا حين اختلط بأسرة متعددة الأنماط الثقافية، وتغيرت لغته الفصحى لدى البطل كلما اقترب أكثر من هذه الأسرة، وكذلك لعب الفنان رياض الخولي دور "علي عبدالظاهر" في فيلم "طيور الظلام"، حصرت السينما الفصحى على الإرهابيين في جميع الأفلام التي تناولت هذه الظاهرة.

وبعد سقوط جماعة "الإخوان" الإرهابية عن كرسي الحكم في مصر، أصبح التحدث بالفصحى مشبوهًا، باعتبار الصورة الضيقة التي حصرتها في أدوار التعبير عن الإرهاب والإرهابيين، وهذا أضر بالفصحى، في الوقت الذي بدأ يتنامي فيه تيار الإبداع بالعامية، ولا يزال الصراع حول أهمية الحفاظ على اللغة الفصحى باعتبارها لغة القرآن الكريم، وبين من يرى أنها لغة إرهاب وعنف، ومحدودة التعبير عن الشارع "العربي"، فكان الفصام بين العرب الذين يلفظون العربية، وهي لغتهم الأم.